بقلم محمود شعيب – كاتب وناشط سياسي
لا يزال حزب الله يعيش في حالة إنكار قاتلة، تجاوزت كل الحدود المعقولة، وها هو اليوم يبلغ هذا الإنكار ذروته عبر تحميل الرئيس نبيه بري دون أن يسميه مسؤولية اتفاق وقف إطلاق النار الذي وُقّع قبل أشهر(الهزيمة والاستسلام. الشيخ نعيم قاسم، بدل أن يشكر بري على تجنيب الجنوب والضاحية والشيعة على حد سواء مصيراً مشابهاً لغزة، يمعن في التضليل السياسي عبر محاولة مكشوفة للتنصل من اتفاق الإذعان، متناسياً أن حكمة بري وحدها التي حالت دون انزلاق مناطق الشيعة إلى محرقة لا تشبه إلا الجحيم الفلسطيني في غزة و القطاع المحاصر.
في ما قاله الشيخ قاسم، اعتراف مبطن طال انتظاره: نعم، الاتفاق هو اتفاق إذعان. لكنه، على عكس ما يحاول الحزب تصويره، ليس نتيجة خيانة أو تهاون، بل ثمرة طبيعية لميزان القوى القائم على الأرض. أن لمن السخف السياسي تصوير الأمر كأنه طعنة في الظهر، بينما الواقع يقول إن موازين القوى ونتائج الحرب هي التي فرضت حدودها، لا طاولة المفاوضات ولا التواقيع عليها.
لكن الإنكار لم يعد مجرد موقف دفاعي، بل تحوّل إلى استراتيجية هجومية. فبدلاً من الاعتراف بحجم التراجع، وبأننا وصلنا إلى جدار مسدود، يتم تحميل بري سلفاً مسؤولية أي تسوية قادمة على السلاح. كأن الحزب يريد أن يحتفظ لنفسه بشرف المقاومة، ويلقي تبعات “النتائج” على الآخرين. وكأن السياسة لا تحتمل الواقعية، وكأن التفاوض ليس جزءاً من المعركة نفسها.
وما يزيد من خطورة هذا الإنكار، أنه بدأ يترافق مع تهديدات مبطنة، كما سمعنا مؤخراً من الشيخ نعيم قاسم عندما قال: “من قرر الاستسلام عليه تحمّل مسؤولية قراره”، في تلميح واضح إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي فاوض عليه الأخ الأكبر باسم الحزب والشيخ تحديدًا، وكأننا أمام محاولة ترهيب مبطنة لمنع مساءلة سياسية مشروعة أو حتى نقاش داخلي حول خيارات كارثية كادت أن تودي بالبيئة الشيعية برمتها.
هل يمكن فصل هذا الكلام عن المشهد الاستعراضي الذي شهدناه خلال المجلس العاشورائي المركزي الذي تقيمه حركة أمل في معوض، حيث بدا واضحاً أن هناك من يريد أن يُظهر عضلاته داخل البيت الشيعي نفسه. ولا عن الظهور المسلح لعناصر من حزب الله في منطقة زقاق البلاط وهي منطقة تاريخيًا محسوبة على حركة أمل نسبة إلى الشهيد علي أيوب في رسالة لا يمكن تفسيرها إلا في سياق الاستقواء والضغط ومحاولة إعادة رسم حدود النفوذ حتى في قلب بيروت؟
لم تعد المكابرة تجدي. الجمهور يعرف. والجنوب يعرف. والضاحية والبقاع أيضًا يعرفون. والناس تعبوا من الروايات المتناقضة، التي تبدأ بالوعيد ولا تنتهي إلا بجولات مفاوضات لا مفر منها. فإذا كان الاتفاق الموقّع منذ أشهر مذلاً، فماذا عن الاتفاق الآتي؟ من سيتحمل مسؤوليته؟ هل سيكون بري أيضاً؟
“اتفاق تسليم السلاح”
ما لا يريد الحزب الاعتراف به هو أن لحظات الحقيقة لا يمكن تأجيلها إلى ما لا نهاية. والحساب الشعبي والسياسي لا يرحم. إن تحميل بري وزر كل ما يجري محاولة بائسة لتبرئة الذات، لكنها لا تصمد أمام واقع يزداد تعقيداً، وجمهور بدأ يميز بين البطولة والاستعراض، بين المسؤولية والتخلي، وبين المقاومة والسيطرة بين الوطنية والمتاجرة بالوطن.
كفى إنكاراً. وكفى مكابرة. من أراد أن يقود، عليه أن يتحمّل. ومن أخذ قرار المغامرة والدخول بحرب الاسناد عليه تحمل المسؤولية لا أن يتلطى خلف الدولة لتسعفه في إعادة الاعمار، من يبقبق من خلف شاشة اليوم، لا يحق له أن يصيح غداً.