الشعوب والبلدان القتيلة هل تتحرّر أرواحها من ندوب عذاباتها وذكرياتها؟

بقلم عقل العويط

تسألينني، يا آنستي، من باب تزجية الوقت الفلسفيّ، ماذا أعرف عن أحوال الموتى الذين أُجاور سكناهم وإقامتهم، فأجيبكِ بما معناه أنّهم كالقصائد، كالشعراء، ممالكُهم ولغاتُهم ليست من هذا العالم، لكنّهم – وأرواحهم – مألومون جينيًّا بالوجود، وإنْ كانت أجسامهم قد ذهبتْ ترابًا.

فتجيبينني بأنّ الموت بوّابة السعادة، وهو يريح الأرواح المعذّبة.

فأجيبكِ ماذا تعرفين مثلًا عن روحكِ، وروحي، وعن أرواح المعرّي وفان غوغ ونيتشه وابن المقفّع والسيّاب وأنسي الحاج وشوبنهاور؟

يحملنا الظنّ أنّ الأرواح تبيت حرّةً، بعد أنْ تتملّص من جحيم الأسئلة والهواجس والأوجاع الشخصيّة، في حين أنّها قد تظلّ متورّطةً معنا في عدم الخلاص من ربقة الشرط البشريّ. فمن عذاباتها أنّها كانت هنا، وربّما لن يكون في مقدورها أنْ تنسى، ولا أنْ “تتحرّر” من “أوجاعها الشخصيّة”.

عندما يقول صموئيل بيكيت على لسان الكفيف المقعد، هام، بطل مسرحيّته “نهاية اللعبة”، مخاطبًا خادمه كلوف، أنتَ على هذه الأرض، لا دواء لكَ، ولا مفرّ من ذلك، فليس ثمّة يقينٌ أنّ الفرار الترابيّ من عذابات الأرض سيفضي إلى تخليص روح المرء من ذكريات جسده وندوب ماضيه.

سؤالي الإشكاليّ الأبديّ: كيف للروح أنْ تنسى ماضيها، وأنْ تتحرّر منه؟

يتحلّق حولي فلاسفة الكآبة والعبث والعدم والـ spleen قائلين: تجربة الأرض تلاحق الموتى أيضًا، وليس لهم منها خلاص. لذا، ربّما يجب التريّث قليلًا قبل إطلاق الأحكام الماورائيّة المبرمة، فنكفّ عن التغنّي بـ”سعادة” المغادرين إلى غير رجوع، ونحن نتأسّى لأحوالنا لأنّنا – بعدُ – لم ننتقل، وفي اعتقادنا أنّ هؤلاء، بفناء أجسادهم، يخرجون نهائيًّا من حلقة العبث المفرغة، التي هي الأرض بمَن عليها، وبما فيها من كآباتٍ عدميّة ومآسٍ وفواجع وكوارث وحروب وأمراض وأحقاد وخساسات وخيبات.

يمثل أمامي شارل بودلير بعذاباته في هذه اللحظة مذكّرًا إيّاي بأنّنا ربّما لا نعثر في الموت على النوم، وربّما نبقى في قبورنا وحدنا، وبأنّ فكرة الموت مرضٌ عضال، ولا تظهر كمكان أعلى تتحرّر فيه الروح. لكنّي لا أنسى قوله في الآن نفسه إنّ الموت هو الذي يعزّي، فهو بوّابةٌ مفتوحة على سماوات مجهولة!

هذا هو الـ Dilemeالبودليريّ، وعلى طريقة الاستفهام الفلسفي الهائم، أسأل كيف للموتى، وهم جموع الفانين والمضطهَدين والقتلى والشهداء، كيف لأرواحهم أنْ تنسى ما مُنِيت به الأجسام والعقول، أو أنْ تمحو ذكريات ماضيها على الأرض؟!

وعندما تذكرين، يا آنستي، استئناسي المستديم بجيرة موتايَ – وهذا صحيح لأنّي أستأنس بهم – يقفز بي الهيام الفلسفيّ إلى مساءلة الموتى على الإطلاق، ولا سيّما منهم الذين (يـ)لوّعهم العدم والكآبة والقهر واليأس والفقر والجوع والمرض والرعب والإرهاب والعنف والتوحّش والقتل القصديّ، هل لا يعودون يتذكّرون؟! هل تتحرّر أرواحهم من ذكريات أوجاعهم الشخصيّة وكآباتهم اليائسة والميِّئسة؟!

واستطرادًا، إنّي أسألكِ يا صديقتي: البلدان والشعوب القتيلة (في ظهرانينا مثلًا)، كيف لا تبقى أرواحها تتذكّر أنّها قتيلة، وكيف يعقل ألّا تظلّ تتذكّر؟!

فها هو الموت (كما في ظهرانينا) يمثل مستعمَرًا صاغرًا تحت أيدي القتلة، فكيف نكون والموتى والقتلى والشهداء… سعداء به؟!

اخترنا لك