بقلم محمود شعيب – كاتب وناشط سياسي
يبرز في المشهد اللبناني المأزوم، نعيم قاسم، بصفته الأمين العام لـ”حزب الله”، كأحد أبرز وجوه التناقض السياسي بين ما يُقال في العلن وما يُدار خلف الأبواب المغلقة. ففي الوقت الذي لا يزال فيه قاسم يرفع شعارات “المقاومة” و”رفض الهيمنة”، تتكشف وقائع ميدانية وسياسية تُظهر مسارًا مختلفًا تمامًا، أساسه التنازلات المُغلّفة بانتصارات وهمية، والتفاوض السرّي المغلف بخطابات نارية، ومحاولات بائسة لاحتواء جمهور منهار من خلال إنجازات مصطنعة لا تعكس حقيقة التراجع الكبير في موقع الحزب داخليًا وخارجيًا.
المعلومات المؤكدة التي تسرّبت من مصادر داخل الحزب الجمهوري الأميركي، والتي كشفت فحوى الرسالة التي نقلها محمد رعد إلى الرئيس نبيه بري عشية الرد اللبناني على ورقة الموفد الأميركي توم براك، تُعد دليلاً بالغ الدقة على هذا الانفصام السياسي. فـ”حزب الله”، عبر ممثله، أبلغ بري استعداده للتنازل الكامل للولايات المتحدة مقابل إخراج إعلامي فقط يتيح له ادّعاء “نصر ميداني”، يتمثل بانسحاب “إسرائيلي” جزئي من خمس نقاط حدودية واستعادة بعض الأسرى، بغية تسويق هذه الخطوة كإنجاز بطولي يعيد له شيئًا من شرعيته الشعبية التي باتت تتآكل.
هذه الممارسة تكشف بوضوح أن “حزب الله”، وعلى رأسه نعيم قاسم، لا يمانع في تقديم التنازلات الفعلية، لكنه يحرص فقط على أن تبدو هذه التنازلات وكأنها انتصارات، وأن يُخدع بها جمهوره الداخلي الذي يعيش انهيارًا حقيقيًا في الثقة والولاء. وما يُضاعف من خطورة هذا النهج، أن الحزب لا يزال يتصرف وكأنّه صاحب القرار الأوحد في لبنان، غير عابئ لا بموقف الحلفاء ولا بمصلحة الدولة، متجاهلًا التوازنات الداخلية التي تشكّل جوهر الصيغة اللبنانية.
وفي هذا السياق تحديدًا، جاء الهجوم غير المسبوق الذي شنّته جريدة “الأخبار” المحسوبة على “حزب الله” على الرئيس نبيه بري، ليشكّل تحوّلًا واضحًا في تموضع الحزب حتى ضمن البيئة الشيعية، بعد أن بات يرى في أقرب حلفائه عائقًا أمام مشروعه الأحادي. فردّ جمهور حركة أمل، الذي استُفزّ سياسيًا وشعبيًا، كشف أن الحزب لم يعد يملك الغطاء الكامل داخل طائفته، وأن حالة التمرّد على نهجه بدأت تتسع حتى من داخل البيت الواحد.
الخطاب الذي يتبناه نعيم قاسم لم يعد يملك مصداقية أمام وقائع الأرض. ففي حين يتحدث عن مواجهة مفتوحة مع “إسرائيل”، يلتزم الحزب الصمت المطبق تجاه آلاف الخروقات التي ارتكبتها القوات “الإسرائيلية” منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار ، كما أنه يقف متفرجًا على الانهيار الاقتصادي من دون تقديم أي خطة حقيقية لإعادة الاعمار والتعويض على المؤسسات الاقتصادية التي تضررت وسرقت ابان حرب اسناد غزة ، في وقت لا يتردّد في الدفاع عن حلفائه المتورطين في الفساد المالي والإداري. أما ما يروّج له قاسم من شعارات تتعلق بالسيادة والاستقلال، فقد بات مجرّد غطاء دعائي، إذ أن الحزب لا يتورع عن التنسيق المفتوح مع طهران والارتهان لمشروعها التوسعي والنووي، ولا عن التفاوض غير المباشر مع واشنطن عندما تقتضي الحاجة، وكل ذلك بعيدًا عن مؤسسات الدولة ومرجعياتها الدستورية.
الأخطر في هذا المشهد، هو اعتقاد “حزب الله” بأنه لا يحتاج إلى شريك لبناني في أي قرار مصيري. فبعد القطيعة مع معظم القوى المسيحية، والتوتر مع القوى السنية والدرزية، والعداء المستجدّ مع حركة أمل، يتصرف الحزب وكأنّه السلطة الوحيدة، والقرار الوحيد، والمقاومة الوحيدة. وهذا ما يعكسه سلوك نعيم قاسم، الذي يُظهر في كل إطلالة إعلامية أن الحزب لا يرى أحدًا في هذا البلد سوى نفسه، ولا يعترف بأي شراكة وطنية أو أي توازن داخلي، وكأن لبنان بات مختصرًا بمشروعه وحده.
هذا الجنون السياسي لا يمكن أن يستمر دون كلفة كارثية على لبنان. إذ أن الإصرار على سياسة العزل والإقصاء، ومراكمة التنازلات السرية المغلفة بشعارات انتصارية، وافتعال بطولات وهمية أمام جمهور غاضب، ليس سوى وصفة لانفجار داخلي جديد يهدد الكيان اللبناني بكل مكوناته. إن الاستمرار في هذا النهج يقود البلاد إلى حرب جديدة لا أحد يريدها، ولا أحد يمكنه تحمّل تداعياتها، في ظل الانهيار الاقتصادي والمؤسساتي الشامل.
لبنان ليس رهينة، ولا يمكن اختصاره بفصيل مسلح قراره في طهران يعتقد أن له وحده حق القرار والحرب والسلم. ومن هنا، فإن وقف هذا الجنون لم يعد خيارًا، بل ضرورة وطنية وأخلاقية قبل أن نجد أنفسنا جميعًا في مواجهة خراب شامل لن ينجو منه أحد.