بقلم جاد الاخوي
في ظل ما يشهده لبنان من أزمات متتالية، أمنية وسياسية واقتصادية، تعود إلى الواجهة قضية الاستراتيجية الدفاعية كواحدة من أبرز الإشكاليات غير المحسومة في بنية الدولة اللبنانية. هذه القضية، التي يفترض أن تكون أساسًا لأي منظومة سيادية، لا تزال رهينة التجاذبات والانقسامات، ما يثير سؤالًا جوهريًا: من يتحمّل مسؤولية وضع وتطبيق الاستراتيجية الدفاعية في لبنان؟
بين النصوص الدستورية والواقع السياسي
بحسب الدستور اللبناني، وتحديدًا المادة 49، يُعدّ رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما يمتلك رئيس الحكومة صلاحيات تنفيذية واسعة ويرأس مجلس الدفاع الأعلى.
إلى جانب هذين الموقعين، يلعب مجلس الوزراء دور السلطة التنفيذية العليا، فيما تتولى المؤسسة العسكرية التنفيذ الفعلي لأي قرار دفاعي. كذلك يضطلع مجلس الدفاع الأعلى بدور تنسيقي واستشاري مهم في الأزمات الكبرى.
لكن كل هذه الأطر المؤسساتية تبقى نظرية ما لم تتوفر الإرادة السياسية الجامعة، وهي الغائبة بفعل انقسام اللبنانيين حول جوهر القضية: من يملك قرار الحرب والسلم؟
سلاح حزب الله: جوهر الإشكال
لا يمكن تناول الاستراتيجية الدفاعية دون الإشارة إلى سلاح حزب الله، الذي يشكّل واقعًا قائمًا خارج بنية الدولة، رغم أنه يُقدَّم بوصفه “سلاح مقاومة”. لكن هذا السلاح، الخارج عن إطار الجيش الوطني والمؤسسات الشرعية، يُعدّ من منظور دستوري خرقًا واضحًا لمبدأ حصرية السلاح وقرار الحرب والسلم بيد الدولة اللبنانية.
وقد جرت محاولات متكررة، عبر هيئة الحوار الوطني منذ عام 2006، لصياغة استراتيجية دفاعية تُراعي هذا الواقع وتدمجه ضمن رؤية وطنية، إلا أن جميع هذه المبادرات بقيت حبرًا على ورق. السبب؟ غياب التوازن في موازين القوى، وتحوّل السلاح إلى ورقة داخلية وإقليمية تُستخدم عند الحاجة، بدل أن تكون جزءًا من استراتيجية لبنانية شاملة.
من يتحمّل مسؤولية الحرب الأخيرة؟
لقد أثبتت الحرب الأخيرة، وما خلّفته من دمار في الجنوب والبقاع وجنوب بيروت، أن بقاء القرار الأمني والعسكري خارج سلطة الدولة يضع لبنان بأكمله أمام المجهول. إعلان الحرب أو التسبب بها دون موافقة الحكومة اللبنانية يُعدّ انتهاكًا لسيادة الدولة والدستور، ويتحمّل مسؤوليته من يتجاوز هذه المرجعية، أيًا كان.
فبينما تتحمّل الدولة مسؤولية إدارة نتائج الحرب، يتحمّل الطرف الذي أشعلها مسؤولية الكارثة. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى محاسبة الفاعل الفعلي، لأن ترك الأمور من دون مساءلة يعني قبول تكرار المأساة مرة بعد أخرى.
الحاجة إلى قرار وطني جريء
لكي تنتقل الاستراتيجية الدفاعية من خانة الشعارات إلى حيّز التطبيق، لا بد من اتخاذ قرار وطني حاسم يُعيد الاعتبار لمرجعية الدولة وحدها في كل ما يتعلق بالسلاح والقرار الأمني. ويتطلّب ذلك ثلاث خطوات رئيسية:
1. توافق سياسي جامع حول رؤية دفاعية موحدة تنطلق من مفهوم الدولة السيّدة.
2. دعم فعلي للجيش اللبناني ليكون القوّة الوحيدة المخوّلة حماية الحدود والسيادة.
3. قرار شجاع بنزع السلاح من جميع الفصائل اللبنانية وغير اللبنانية خارج الشرعية، وتثبيت أن قرار الحرب والسلم لا يكون إلا بيد السلطة التنفيذية، وليس بيد أي جهة حزبية أو عسكرية أو دينية.
السيادة تبدأ من وضوح المرجعية
الاستراتيجية الدفاعية ليست ترفًا سياسيًا أو بندًا للمناورات الخطابية، بل هي ركن أساسي في بناء الدولة. وما لم تُحسم هذه المسألة بوضوح، سيبقى لبنان أسيرًا لسلاح غير منضبط، ولقرارات أمنية تُتخذ خارج الأطر الدستورية.
الطريق إلى دولة سيدة تبدأ من هنا: من الاعتراف بأن السيادة لا تتجزأ، وأن احتكار القوة المسلحة من قبل الدولة هو ما يميز الدولة عن اللادولة، وما يحصّن لبنان من الوقوع مجددًا في دوامة العنف والولاءات المتعددة.