على حبّ الحسين.. أم حبّ السلاح

بقلم مكرم رباح

صادفت الأسبوع المنصرم ذكرى العاشر من محرّم، إذ يحيي أبناء الطائفة الشيعية الجعفرية مراسم مقتل إمامهم الثالث، الإمام الحسين، الذي لَقِيَ مصرعه في واقعة كربلاء إلى جانب عائلته وثلة من أصحابه. إنها حادثة تاريخية مَثّلت نقطة محورية عند مذهب شيعة أهل البيت، إذ يُعَدّ حبهم للحسين ومأساته عمادًا وجدانيًا وعقائديًا لمذهبهم، تغلّبت عليه في بعض الأحيان نبرة ميلودرامية.

اللافت في هذه الشعائر السنوية اختلاطها عند البعض بحال من “الانفصام”، حيث يبالغ بعض من يزعمون حبّهم للحسين في الدفاع عن سلاح “حزب اللّه”، معتبرين أنّ هذا السلاح الإيراني جزء لا يتجزأ من العقيدة والوجود الشيعي في لبنان. بل يذهبون حدّ الزعم أن المطالبة بنزع السلاح هي مطالبة بعزل الطائفة الشيعية، وهو ادّعاء يمزج الهلوسة الدينية بالتضليل السياسي، ويشكّل في الجوهر إهانة للطائفة ولحبّها للحسين.

وفي الوقت الذي يحتفي فيه أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى بتراثهم ورموزهم من دون ربطها بمنظومات تسلّح أو دويلات داخل الدولة، يصبح مشروعًا طَرحُ السؤال التالي: لماذا يُربط حبّ “الحسين” عند البعض في لبنان بامتلاك السلاح ورفض الدولة؟ وهل تحوّل استغلال هذا الحبّ إلى بندقية في يد مشروع سياسي خارجي؟

الركن الأساس في ذكرى كربلاء هو بعدها الإنساني، إذ شكّلت ملحمة الحسين مصدرًا لنفحة تقدمية وتغييرية في تاريخ الشيعة. الإمام الحسين لم يحمل السلاح من أجل سلطة ولا من أجل امتياز طائفي، بل من أجل قول كلمة حقّ في وجه سلطان جائر. فكيف يمكن أن نحرّف هذه السيرة لتصبح غطاءً لسلاح يفرض الصمت على الناس، ويصادر قرار الدولة، ويمنع قيام العدالة؟ إنّ ربط السلاح بالواقعة الكربلائية، خصوصًا بنسخته الإيرانية التوسّعية والمدمّرة، يحوّل واقعة الطف من رمز للمظلومية والحق إلى أداة استبداد تتناقض مع مفاهيم العدالة والحرية التي حملتها الرسالة الحسينية.

إنّ محاولة تكريس السلاح ومنحه هالة دينية تتناقض مع الفهم الفلسفي لسيرة الحسين وكربلاء، وتُلزم من يدّعي التشيّع بالعودة إلى المراجع الأصلية للمذهب الجعفري، والابتعاد من البدع العقائدية التي يروّج لها المتشيّعون الجدد.

في السياق نفسه، أطلق “حزب اللّه” حملة دعائية تهدف إلى إضفاء الشرعية الدينية على السلاح، مستخدمًا شعارًا مستهلكًا – إن لم نقل مبتذلًا – “لن نترك السلاح”، مرفقًا بصور مستحدثة عبر الذكاء الاصطناعي تُظهر رجلًا يحمل طفلًا وبندقية، وامرأة تحمل السلاح. هذا الشعار يذكّر بشعار “الجمعية الوطنية للبنادق” في الولايات المتحدة (National Rifle Association)، التي ترفع شعار “لن تأخذوا سلاحي إلا من يدي بعد مماتي”، مستندة إلى التعديل الثاني من الدستور الأميركي الذي يجيز حيازة السلاح للأفراد.

أما في لبنان، فالدستور واضح: لا يجيز هذا الحق، وينصّ على حصرية السلاح بيد الدولة ومؤسّساتها الشرعية. أما بدعة “الجيش والشعب والمقاومة”، فتمثل خرقًا مستدامًا للدستور، إذ إن السلاح، حين يُلبس ثوب المذهب، يتناقض مع صيغة العيش المشترك الواردة في مقدمته. تحويل الشيعة إلى ضحية دائمة تُستخدم للدفاع عن سلاح غير شرعي ليس فقط تضليلًا، بل جريمة سياسية. من يُصرّ على أن الشيعة لا يُحمَون إلّا بالسلاح الإيراني، يُسهم في تكريسهم كجماعة محاصرة، لا كمواطنين يتمتّعون بكامل حقوقهم في دولة مدنية عادلة.

لقد أصبح السلاح لعنة لا على لبنان فحسب، بل حتى على حامليه، الذين يشبهون طفلًا مدلّلًا، يرفض إعادة لعبة أخذها عنوة من زميله، حتى لو ضربه أهله أمام الناس. طفل يُحاضر في الكبار بالدين والإيمان، في حين أنه يرفض الإصغاء إلى حكماء قومه.

لعلّهم نسوا بريق عيني الراحل السيد هاني فحص، الذي حاول أن يُذكّر البعض، خصوصًا أولئك المتمرّسين في حبّ السلاح، بقوله: “أجمل ما في ماضي الحسين هو الأجمل في مستقبلنا، أي أن نبقى على انحيازنا إلى العدل والحرية والوحدة، نبنيها على التوحيد الذي يجمعنا من دون أن يلغي خصائصنا، لأن المعنى المركب أجمل وأبقى وأخصب من المعنى البسيط، هذا إذا أردنا أن نبقى أو نسترجع دورنا أو بعضًا من دورنا في الشراكة الحضارية وصياغة أطروحة ثقافية إيمانية إنسانية، تؤهّلنا لأن نعيد التواصل مع ماضينا بتجديد ما هو قابل للتجديد، وإضافة الضروري، وحذف الضار… ولا جواب عليها إلا بالمزيد من المعرفة، ولا مزيد من المعرفة إلّا بالمزيد من الشراكة، أي بالمزيد من الوحدة، على أساس أن التعدد هو شرط حضاري، والعيب في أطراف المتعدد عندما يميلون إلى التنابذ والإلغاء وتضييق المشترك وتوسيع مساحة التقابل والدفع بالاختلاف إلى التناقض والتناحر”.

وحدها الدولة التي تحمي الجميع هي ضمانة الشيعة كما المسيحيين والسنة والدروز. ومن أراد أن يكرّم الحسين، فليحمِل صوته، لا بندقيته. فالحسين لم يُقتل ليُضفي على السلاح مسحة القداسة، بل ليبقى الناس أحرارًا في وجه كلّ ظالم، داخليًا كان أو خارجيًا.

فإن لم يَرُق لمحبّي السلاح الاستماع إلى نصيحة السيد هاني، فعليهم على الأقل أن يدركوا أنّ الدين للّه، أما السلاح فللدولة، فقط للدولة. وإن كانوا يرفضون هذه البديهية، فلعلّهم يتذكّرون الحكمة القائلة: “ليس هناك من شجرة وصلت إلى ربّها مهما علت”.

اخترنا لك