استهداف #الدفاع_المدني في #بعلبك : كيف لم يهتزّ الإعلام لجريمة بهذا الحجم

(ج 1)

كتب رازي أيوب – رنا صاغيّة
في المفكرة القانونية

ارتكبت إسرائيل في الفترة بين 23 أيلول و17 تشرين الثاني 2024، جرائم حرب عدّة وبمعدّل شبه يومي، وهو ما رتّب على الإعلام اللبناني وبخاصّة القنوات التلفزيونيّة مسؤوليّات كبيرة إزاء جرائم الحرب المرتكبة، في طليعتها توثيق جرائم الحرب ومخاطبة مخاوف وحاجات الناس وصون كراماتهم.

وكان الإعلام المحلّي أمام مفترق: إمّا أن يؤدّي دور الشاهد على الجرائم والمدافع عن الضحايا، أو أن يهمل المعايير الحقوقيّة في التغطية فيكون مجرّد ناقل لرسائل الرعب والبروباغندا، ويفرّط وإن من دون قصد، بجملة من الحقوق الإنسانيّة التي من واجب الإعلام – في غياب أطراف معنيّة بالتوثيق – أن يوثّق انتهاكاتها.

عليه، وبحثًا عن أنواع التغطية لأنواع مختلفة من الجرائم في حق الإنسانيّة، وعن بعدها الحقوقيّ، ومن بين عشرات الحالات من جرائم الحرب التي سبق وثقّتها “المفكرة القانونيّة”، انتقينا عشر حالات نظرًا إلى فرادة الجريمة وفداحتها أو فرادة تغطيتها كنموذج يغفل/ يثير البعد الحقوقي للجريمة.

والحالات هي:

(1) استهداف الدفاع المدني في بعلبك
(2) مجزرة أيطو
(3) مجزرة عين يعقوب في حق النازحين
(4) مجزرتي البسطة والنويري في العاصمة بيروت
(5) تدمير قرية محيبيب التاريخيّة
(6) استهداف كادر ومبنى بلدية النبطية
(7) تهديد واستهداف المواقع الأثريّة في بعلبك
(8) اغتيال مسؤول العلاقات الإعلاميّة في حزب الله محمد عفيف النابلسي ورفاقه
(9) استهداف الصحافيين في حاصبيا
(10) استهداف مباني مؤسسة القرض الحسن.

وتركّز بحثنا على تغطية هذه الحالات في نشرات الأخبار المسائيّة للمحطات التلفزيونية الأكثر مشاهدة لبنان (“الجديد”، “إل بي سي”، “إم تي في”). ونتوقف عند أربعة معايير أساسيّة هي: التوثيق والتوصيف والمساءلة واحترام الضحايا.

في هذه المقالة نتناول تغطية الإعلام اللبناني لاستهداف الدفاع المدني في بعلبك في 14 تشرين الثاني 2024.

قد تكون هذه الجريمة أشنع الجرائم التي حصلت في ذروة الاجتياح. وقعت في سياق غارات ممنهجة تعمّدت تدمير القطاع الإغاثي والإسعافي في لبنان وإعاقة عمله. وقد استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر مركز الدفاع المدني الإقليمي في دورس- بعلبك، ما أدّى إلى سقوط 14 شهيدًا (12 من الدفاع المدني). وكانت قد بلغت حصيلة استهداف إسرائيل للعاملين في القطاع الصحّي خلال الحرب وحتّى تاريخ هذا الاستهداف، 210 شهداء و309 جريحًا. أمّا عدد شهداء القطاع الصحّي والطبي والإنقاذي والإسعافي لغاية تاريخ سريان وقف إطلاق النار (27 تشرين الثاني 2024) فقد بلغ 270 شهيدًا وفق توثيق “المفكرة القانونية” (يعود الفارق مع الأرقام الواردة في تقرير وزارة الصحّة، إلى رصد “المفكرة” وفاة بعض من جرحى المسعفين متأثرين بجراحهم).

تبدأ المواقع الإخبارية تغطية الخبر بعاجل قصير عن الاستهداف قبل الساعة التاسعة مساء، “غارة تستهدف الدفاع المدني في منطقة دورس – بعلبك”، أو بعاجل ينقل عن تغريدة محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر أو اتصال به، قوامه: “استهداف مركز الدفاع المدني في بعلبك أثناء تواجد أكثر من 20 عنصرًا داخل المركز من الدفاع المدني”. ثمّ تتوالى أخبار تشير إلى تصاعد عدد الضحايا. وكما في أغلب التغطيات لهذه الحرب، كان نقل الأخبار المتضاربة نمطًا متكرّرًا، بحيث نقلت أنباء عن استشهاد رئيس مركز الدفاع المدني الإقليمي في بعلبك بلال رعد، ثم جرى نفيها، ثم جرى تأكيدها مجددًا.

وفي اليوم التالي، نفهم المعطيات بشكل أدقّ، بعد تصريحات من المصادر الرسميّة (بيانا وزارة الصحّة والمديريّة العامة للدفاع المدني). ونفهم صباح ذلك اليوم أنّ هؤلاء الضحايا القتلى، سبق وكانوا يعدّون أنفسهم لإنقاذ ضحايا مجزرة كانت وقعت في اليوم نفسه، وهي المجزرة في حي الشعب-بعلبك التي غطّتها نشرات الأخبار مساء ذلك اليوم. وممّا نلحظه في التغطية طوال فترة اشتداد الحرب، أنّها تقسّمت تبعًا لتوزّع المراسلين على المناطق (الجنوب، الضاحية، البقاع، الخ..) وفي هذه الحالة اندرج الخبر على المحطات التلفزيونيّة في سياق تغطية الغارات على البقاع، ولحظنا أنّ أولويّة التغطية لدى أكثر وسائل الإعلام، كانت لاعتبارات مناطقيّة، أكثر من كونها تتعلّق بحدث بعينه، فمثلًا للغارات على بيروت وضواحيها أولويّة في التغطيّة كما لحظنا…

في معرض التغطية المستمرّة، تنتقل التغطية إلى مراسلة البقاع، تسرد مراسلة “الجديد” عدد الغارات على البقاع، وبينها الغارة على دورس. تقول إنّه استهداف جديد للدفاع المدني، وإنّها “المرّة الأولى التي يستهدف بها العدو الإسرائيلي في البقاع مركزًا للدفاع المدني”. وتنقل عن الصليب الأحمر أنّ عدد الضحايا القتلى بلغ 8. يأخذ الخبر حيّز 1:20 دقيقة من أصل 5:20 دقيقة. ولا نلحظ حساسيّة المراسلة إزاء فرادة الخبر وشناعة الجريمة. فلا تأتي على ذكر مصطلحات “جريمة حرب”، “أشخاص محميّون”، “جريمة ضدّ الإنسانيّة” أو “خرق للقانون الدولي”، إلخ.. ولا تشير إلى ما يعنيه استهداف الطواقم الإغاثية والصحّية، وانعكاسه في تعظيم الكوارث الإنسانيّة. وإن عادت المراسلة خلال النشرة الليليّة لتشير إلى مثل ذلك، تقول “طبعًا عناصر الدفاع المدني يتواجدون عادة في مواقع الاستهداف، وهم في الخطوط الأمامية في مواجهة العدوان ويقومون بإنقاذ كلّ من هم عالقون تحت الأنقاض. اليوم باتوا هم من بحاجة إلى من ينقذهم”. وتلفت إلى أنّها ليست المرّة الأولى التي يعتدي فيها العدو على الدفاع المدني وعناصر الهيئة الصحية. ولكن أيضًا لا يأخذ هذا الخبر حيّزًا أطول من دقيقتين من أصل 7 لتغطية البقاع.

كذلك أوردت “إل بي سي” و”إم تي في” الخبر من دون تمييز فرادته. وكذلك موقع “المدن” مثلًا، أورد الخبر مساء اليوم نفسه، في معرض حديثه عن غارات على “أطراف بلدة طاريا وبوداي، ومجدلون وجنتا وتمنين التحتا، ومنطقة دورس”. وإذ أضاف الجملة التي نشرها محافظ بعلبك، تابع “أمّا جنوبًا،…” من دون أي تعليق إضافي. ويؤشّر شكل التغطيّة عمومًا، إلى غياب حساسية المحرّر تجاه فرادة الخبر وضرورة توضيح أبعاده الحقوقيّة. ونقصد بذلك أن يكون المحرّر (أو المراسل أو المعدّ) مهيّأ لتقديم توصيف تلقائي للجرائم، وتقدير مخاطرها وتداعياتها حقوقيًا، وطرح الأسئلة الملائمة بشأنها.

اليوم التالي، شهدنا تحسّنًا في مضمون التغطيّة، فتلحظ “الجديد” في مطلع تقرير لها، أنّ ما جرى جريمة حرب. وقد أفردت نحو 10 دقائق نقلت في أغلبها تعليقات أصدقاء الضحايا، وفيما اكتفى التقرير بالحديث عن أنّ “الدفاع المدني في دورس يودّع شهداءه” وبالكلام عن أنّ العدوان غاشم، والكلام عن فظاعة المجزرة وما تبقّى من أثر وأشلاء للضحايا، لا يتّضح لنا طوال التغطية ما يميّز هذه الجريمة كجريمة حرب. لكن يسجّل لـ “الجديد” نقلها تعليقات أصدقاء الضحايا، إذ تساعد شهادة هؤلاء في تدعيم المضمون التوثيقي للجريمة، كما تعطي صوتًا للضحايا وذويهم، وتعكس جوانب مختلفة من الضرر اللاحق بهم.

كما يسجّل للـ “إل بي سي” حديثها عن أنّها جريمة ضمن سلسلة جرائم حرب في حق الطواقم الصحيّة والإسعافيّة، ويسجّل لها أيضًا تطرّقها في بداية تقريرها إلى حياة الشهيد بلال رعد، واستذكار عمله في مساعدة الأهالي وإغاثتهم. كما يُسجّل للتقرير في أسلوب عرضه لصور الضحايا واختياره الموسيقى أنّه يصبّ في عدم تجهيل الضحايا. وتجهيل الضحايا هو أمر انزلقت إليه تقارير أخرى، ربما بسبب توالي الأحداث والجرائم وكثرتها. وفيما عرضت “إل بي سي” في تقريرها (أقلّ من 3 دقائق) بعض شهادات أصدقاء الضحايا، فإنّ مضمون التقرير تمحور حول صعوبة انتشال الجثث وسط الدمار الهائل. وتميّزت “إل بي سي” في إيضاحها شيئًا من فرادة الجريمة، ولماذا هي “انتهاك فاضح للقوانين الإنسانية”، فأخذت شهادة موثّقة في اتصال مع مدير عام الدفاع المدني ريمون خطار قال فيها إنّهم لم يبلّغوا بأي تحذير كي يخلي الطاقم المكان. وتحدّث التقرير أيضًا عن انتهاك إسرائيل لـ “حرمة الشهداء” في نظر أبناء بعلبك، “هؤلاء يعتبرون أنّ استهداف فرق الدفاع المدني التي تسعف الناس، رسالة موت جماعي لأبناء بعلبك المستهدفين يوميًا بالاعتداءات الإسرائيلية”. وهنا التزم التقرير بالمعيار الإنساني الأهم ربما، أي “كرامة الضحايا” وحق الضحية في الإغاثة. كما أشار إلى فكرة أنّ هناك شخصيّات محميّة في القانون الدولي ومنها الطواقم الإسعافيّة والصحيّة. وكان من المفيد لو استعان التقرير أو المحرر بخبير قانوني يبرز تصنيف هذه الجريمة وفرادتها.

في المقابل، استمرّ الخبر على “إم تي في” تحت عنوان “تطوّرات البقاع“، واكتفت بالتطرّق إلى عدد من تمّ التعرّف عليهم من الضحايا، ومن سيتمّ تشييعه منهم.

اليوم الثالث، يغيب الخبر عن النشرات، ونكون أمام تغطية مجازر جديدة في البقاع أو مناطق أخرى (الدقيقة 33). وإذ اكتفت “إل بي سي” في الإشارة في دقيقة، إلى تشييع الضحايا (اليوم التالي اغتيال محمد عفيف)، يسجّل للـ “إم تي في” أنّها أعدّت تقريرًا حول الدفاع المدني في الحرب، في إضاءة على طبيعة عمله. وفي ما عدا التقريرين، فإنّ الحدث لم يجر التجاوب معه بالقدر الكافي من التغطية، بخاصّة لجهة إبراز أبعاده القانونية.

بالتالي، ومع الإقرار بالتحدّيات التي واجهها الصحافيّون أثناء الحرب، وهامش الخطأ المهني في الحروب والنزاعات المسلّحة وأهمية السرعة في نشر الخبر، إلّا أنّه يمكن القول إنّ التغطية الإعلامية، في معظمها، لم تكن على مستوى الجريمة المرتكبة، إذ لم تُعامل كأولويّة، بغضّ النظر عن المنطقة التي وقعت فيها أو مدى تعرّضها السابق للاستهداف والدمار. فجريمة بهذا الحجم كان يفترض أن تُحدث صدىً إعلاميًا وقانونيًا مدوّيًا، كونها خارجة عن كلّ مألوف، ولا يمكن القبول بها بأيّ معيار. قد يكون مردّ ذلك ضعف الوعي الإعلامي بدوره الأساسي في توثيق الجرائم والانتهاكات أثناء الحروب، فالإعلام لا ينقل الحدث فقط، إنّما يؤسّس للمحاسبة والذاكرة الجماعية واحترام كرامة الضحايا وحق ذويهم والمجتمع ككلّ في معرفة الحقيقة.

تستدعي هذه التغطية ملاحظات عدّة، أبرزها الآتية:

– ثغرات في التوثيق:

بالرغم من بعض الإيجابيات التي وردت أعلاه، لم يتمّ وضع الجريمة في سياقها العامّ، ممّا حال دون فهم أبعادها الكاملة. فالتوثيق الإعلامي يتطلّب البحث في تفاصيل الاستهداف، وأيضًا في سياقه الأوسع، مثل الوضعية القانونية للأشخاص والأعيان (مقرّ ومعدّات وسيارات) المستهدفة، والأضرار التي تسبّب بها لاسيّما للقدرة على الاستجابة الإنسانية لاحقًا، دور الضحايا قبل الهجوم، تداعياته على السكان الذين ما زالوا في المنطقة وفرق الإغاثة الأخرى، أو ما إذا كان هناك نمط متكرّر من استهداف فرق الإنقاذ…

– قصور في طرح أسئلة حقوقية جوهرية:

لم نتمكّن من رصد أيّة أسئلة متّصلة بما إذا كان الموقع المستهدف يسهل التعرّف عليه كمقرّ للدفاع المدني، أو بشأن مدى احترام مبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين، أو مبدأ التناسب في الهجوم، أو إذا تمّ اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتفادي الإضرار بالدفاع المدني (ما عدا نقل إحدى المؤسسات عن مدير الدفاع المدني، أنّهم لم يبلغوا بأي تحذير كي يخلي الطاقم المكان، لكن غياب أسئلة أخرى يعني أن تحضير الأسئلة غير ممنهج)، أو إذا كان هناك تقصير رسمي في الحماية. فالتوثيق لا يقتصر على سرد الوقائع، بل يجب طرح الأسئلة التي تُحفّز الرأي العام، وتُمهّد للمساءلة المحلية والدولية. من البديهي في هذا الصدد ألّا يكون الإعلام قادرًا على تقديم إجابات شاملة وقاطعة على تلك الأسئلة، أو تحديد ما إذا كانت هذه الأفعال الموثقة ترقى إلى جرائم حرب أو انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، إلّا أنّ التدريب المسبق يمكّن الإعلاميين من طرح الأسئلة المناسبة ويسهم في فتح النقاش حول القضايا الرئيسية بعيدًا عن الاصطفاف السياسي أو الطائفي والتحيّزات الاجتماعية.

نلحظ أيضًا تباطؤًا في طرح الأسئلة الحقوقية، يشير إليه غياب التوصيف القانوني للاستهداف في التغطية المباشرة بعد الحدث، ثم حضوره في اليوم الثاني من التغطيّة. يؤشّر ذلك أيضًا إلى نقصٍ في التدريب الإعلامي أو عدم قدرة الإعلامي على الاستعانة بمستشارين حقوقيين.

– ثغرات في التوصيف القانوني:

رصدنا في التغطية المباشرة واللاحقة للاستهداف ضعفًا في توصيف مجريات الاستهداف قانونيًا وطبيعته وتحديد المسؤولية عنه، ولم نرصد عمومًا محاولات جدّية لتعويض ذلك كإجراء مقابلات مع ذوي الاختصاص، رغم توفّر مؤشّرات قويّة على أنّ الاستهداف يشكّل جريمة حرب وانتهاكًا جسيمًا لأحكام القانون الدولي الإنساني.

هذا القصور يُظهر حاجة ماسّة إلى تطوير القدرات المهنية من ثلاث نواحٍ: أوّلًا، تدرّب الإعلامي على مفاهيم أساسية لتأطير الأخبار (مثل مصطلح جريمة حرب)، ثانيًا، تثقيفه لتمكينه من القيام ببحث أوّلي سريع لتأطير حقوقي أفضل للخبر، ثالثًا، تمكين سياسة التحرير من التفاعل السريع مع مستشارين حقوقيين لتأطير الخبر.

– ثغرات في التحقّق من صحّة المعلومات قبل النشر:

بخاصّة في الحالات التي ينطوي فيها الخبر على خرق للخصوصيّة أو احتمال إلحاق ضرر إضافي بالضحايا أو بالفئات الأكثر عرضة للخطر. مثال على ذلك: إعلان وفاة أشخاص ثمّ نفي الخبر ثمّ تأكيده، أو ذكر أسماء الضحايا قبل التأكّد من صحّة الخبر ومن علم ذويهم بالجريمة. كذلك نشر معلومات مسبقة حول التشييع إذا كان من شأن ذلك أن يشكّل خطرًا على سلامة المدنيين المشاركين في هذا التشييع.

اخترنا لك