التوظيف الطائفي للعواطف في النزاعات الخارجية : #لبنان في مرآة الغير

بقلم ميراز الجندي – كاتب ومحلل سياسي
@MirazJundi

مع كل اشتعال لصراع إقليمي، يتحوّل لبنان إلى صندوق صدى يعكس انفعالات الخارج. لا يحتاج اللبناني إلى أكثر من خطاب مذهبي أو فتوى عاطفية، حتى يتخندق تلقائيًا، وكأن الوطن لا يكفيه ما فيه من أزمات.

هذا التفاعل ليس بريئًا. بل هو مزيج خطير من إرثٍ طائفيٍ عميق واستثمار سياسي مدروس في العواطف الدينية. وفي بلد يقوم نظامه على المحاصصة الطائفية، تصبح العاطفة أداة تعبئة، والانتماء المذهبي بوابة لتفكيك الدولة.

الجذور، من المتصرفية إلى الميثاق

الطائفية ليست أزمة مستجدة في لبنان، بل امتداد لمسار تاريخي بدأ مع نظام المتصرفية عام 1861، وتكرّس في دستور 1926، وتحوّل إلى قاعدة سياسية مع الميثاق الوطني عام 1943. هذا النظام جعل من كل طائفة كيانًا سياسيًا، ومن كل استحقاق مناسبة لإعادة تقاسم الحصص.

النتيجة: دولة مفرغة من مفهوم “المواطنة”، يعيش أبناؤها في جزر مذهبية، ويُستدعى كل منهم عند الحاجة إلى الاصطفاف خلف “زعيم الطائفة”، لا خلف الدستور والقانون والوطن.

لبنان في حروب غيره

المؤلم أن اللبنانيين باتوا يخوضون حروبًا لا تعنيهم. كلما انخرط “نظير مذهبي” في الخارج بصراع، تنطلق “معركة معنوية” في الداخل. من اليمن إلى العراق، ومن فلسطين إلى سوريا وضولا الى ارمنيا واوكرنيا ، تتحرك المشاعر المذهبية في بيروت وصيدا وطرابلس والبقاع، وتتراجع أولويات الناس أمام شعارات “الولاء” و”النصرة”.

هذه العاطفة المذهبية تُستغل من قِبل قوى داخلية وخارجية لتحريك الشارع، وتبرير العنف، وتعطيل الدولة. وهنا مكمن الخطر: حين يصبح المواطن جنديًا لعقيدة سياسية لا تخدم مصالح وطنه.

حزب الله، الطائفة في ثوب الميليشيا

لعل أبرز مثال على ذلك هو حزب ال’له، الذي نشأ كمقاومة ضد الاحتلال، ثم تحوّل إلى قوة عسكرية وسياسية تمتلك مشروعًا يتجاوز الدولة. من الحرب في سورية إلى أحداث الداخل ( 2008، الطيونة…)، أثبت الحزب أن السلاح المذهبي يُستخدم عند الحاجة، حتى على حساب السلم الأهلي.

لكن الظاهرة لا تقتصر عليه فقط. فالنظام ككل يسمح بقيام شبكات طائفية مسلحة أو مؤدلجة، قادرة على تعطيل أي مشروع وطني جامع.

المواطنة بديلًا وحلًا دائمًا

لبنان يحتاج إلى قلب المعادلة: من طوائف تتقاسم الدولة، إلى مواطنين يتقاسمون الوطن. والمواطنة هنا لا تعني إلغاء الدين أو الخصوصية الثقافية، بل إن التنوع يغني القرار العام ويعززه.

ما نحتاجه هو:

1. إصلاح تربوي شامل يُعيد تعريف الهوية الوطنية.

2. قانون انتخاب مدني خارج القيد الطائفي لمجلس النواب.

3. طمأنة الطوائف عبر مجلس شيوخ يضمن تمثيلها ويُفصل عن مجلس النواب المنتخب مدنيًا.

4. إعلام مستقل يروّج لثقافة الحوار والمواطنة لا الكراهية.

5. حصر السلاح كل السلاح بيد الدولة وحدها.

الإيمان لا يتناقض مع الدولة المدنية

ليس مطلوبًا من أي لبناني أن يتخلى عن إيمانه، بل فقط أن يتقدم بانتمائه إلى الوطن على حساب العصبية. فالدين الذي لا يُستخدم أداة تسامٍ، سيتحوّل أداة قتال. والمجتمع الذي لا يعترف بالمواطن الفرد، سيبقى غارقًا في زواريب الطائفة.

بين الانقسام والبناء

لبنان يقف على مفترق طرق: إما أن نبني الدولة أو نواصل الانهيار داخل الخنادق الطائفية. لا نحتاج إلى مزيد من الجنود في حروب الآخرين، بل إلى مواطنين فاعلين في معركة الداخل: معركة بناء دولة، قضاء مستقل، تعليم جامع، وأمن موحَّد.

لبنان لا يُبنى بعاطفة مذهبية، بل بإرادة وطنية.

فلنختر البناء… لا الاصطفاف.
فلنختر الدولة… لا الدويلة.
فلنختر لبنان، كل لبنان.

اخترنا لك