بقلم د. كولشان يوسف صغلام – اكاديمية وباحثة
@gulshansaglam
تشهد سوريا في المرحلة الراهنة تصعيدًا غير مسبوق في الضربات الجوية الإسرائيلية، كان أبرزها استهداف محيط قصر الشعب في دمشق، في سابقة تحمل دلالات سياسية واستراتيجية تتجاوز البعد العسكري التقليدي. يشير هذا التطور إلى محاولة إسرائيلية حثيثة لإعادة رسم معالم القرار السيادي السوري، من خلال تصعيد عسكري ممنهج يُسوَّق بذريعة حماية الطائفة الدرزية في الجنوب السوري، بينما تشير الوقائع الميدانية إلى أن الهدف الحقيقي يتمثل في فرض تسوية إقليمية جديدة، مشروطة بقبول ضمني بضم الجولان السوري المحتل، وإخراج سوريا من معادلة الصراع الإقليمي مع إسرائيل.
يتزامن هذا التصعيد مع اشتباك نفوذ غير مُعلن بين إسرائيل وتركيا على الأرض السورية، رغم اختلاف الدوافع والأجندات السياسية بين الطرفين. ففي حين تتحرك أنقرة في الشمال السوري انطلاقًا من دوافع أمنية تتعلق بحماية حدودها الجنوبية من التهديدات الكردية والمسلحة، تعمل إسرائيل على تعزيز حضورها الاستراتيجي في الجنوب، مستثمرة ملف الدروز كورقة ضغط سياسية وعسكرية.
هذا التداخل في المواقع والنفوذ يعيد طرح تساؤل محوري: هل أصبحت سوريا ساحة صراع نفوذ إقليمي تُحاول فيه إسرائيل فرض هيمنتها العسكرية والسياسية، رغم إدراكها المقلق بأن “مفتاح” الساحة السورية لا يزال في يد أنقرة، ما يحد من قدرتها على إعادة تشكيل الدولة السورية وفق مصالحها؟
الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي تسلّم السلطة في عام 2024، يواجه تحديات معقدة تتجاوز الداخل السوري، حيث لم تعد الأزمة محصورة في الانقسامات الداخلية، بل تتصاعد الضغوط الخارجية تحت عناوين مثل “السلام” و”الاستقرار”، لكنها في جوهرها تهدف إلى تفكيك الثوابت الوطنية السورية، ودفع دمشق نحو قبول تسويات مفروضة من الخارج. وقد ترافقت هذه الضغوط مع رسائل تهديد مباشرة وعلنية موجَّهة للرئيس الشرع، ضمن ما يبدو أنه حملة ضغط استراتيجي تهدف إلى انتزاع تنازلات سيادية في ملفات مركزية، وعلى رأسها الجولان المحتل.
لفهم السياق الأعمق لهذه التطورات، لا بد من استحضار الإطار التاريخي لقضية الجولان. فمنذ احتلاله في حرب حزيران 1967، ظلت إسرائيل تحتفظ به رغم توقيع اتفاق فصل القوات في 1974، الذي حفظ وقف إطلاق النار لكنه لم يفضِ إلى تسوية نهائية. وعندما أعلنت إسرائيل ضم الجولان رسميًا عام 1981، أدان مجلس الأمن ذلك بقرار رقم 497 الذي اعتبر الضم باطلًا ولا يغيّر من الوضع القانوني. وفي تسعينيات القرن الماضي، فشلت جولات التفاوض بين دمشق وتل أبيب، برعاية أميركية، بسبب إصرار سوريا على الانسحاب الكامل حتى حدود الرابع من حزيران 1967. وفي 2019، منح الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، إسرائيل اعترافًا رسميًا بسيادتها على الجولان، في خطوة أحادية رفضتها الأمم المتحدة وأغلب دول العالم.
من هذا المنطلق، فإن التصعيد الإسرائيلي الحالي يعكس استراتيجية مبيته تتلخص في معادلة “السلام مقابل الاستسلام”، عبر فرض وقائع عسكرية جديدة تستغل هشاشة الوضع الإقليمي وتشظي الداخل السوري سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ويأتي استغلال إسرائيل لملفي الدروز والأكراد، المدعومين أميركيًا، ضمن هذا الإطار، إذ يُهدد بتفجير انقسامات داخلية جديدة تُضعف وحدة الموقف السوري وتضع دمشق أمام خيارات قاسية.
وهنا تبرز أسئلة ملحة: هل يشكّل وقف إطلاق النار الأخير في السويداء مهلة مفخخة لدفع القيادة السورية نحو قبول مفاوضات مشروطة، تتضمن التنازل عن الجولان؟ وهل ستتمكن إسرائيل من جر تركيا إلى صدام عسكري مباشر على الأرض السورية؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فهل تسعى تل أبيب إلى كسب الوقت حتى تفرض واقعًا سياسيًا جديدًا؟
تركيا، رغم تحركها العسكري المحدود في الشمال السوري، لا تبدو معنية بالدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، لكنها في الوقت ذاته تدير الملف السوري دبلوماسيًا، خصوصًا عبر التنسيق مع واشنطن. هذا التحرك التركي يزعج إسرائيل بوضوح، إذ ترى تل أبيب أن أنقرة لا تزال تحتفظ بمفاتيح تأثير حقيقية على الأرض السورية، تمنع استفراد إسرائيل بالمشهد الإقليمي.
وفي ظل تقاعس الولايات المتحدة عن كبح التصعيد الإسرائيلي، تزداد احتمالات تفجر انقسامات داخلية سورية، خاصة فيما يتعلق بالدروز والأكراد، الذين تحظى بعض مكوناتهم بدعم مباشر من واشنطن وتل أبيب. وقد يؤدي هذا السيناريو إلى فرض تسوية سياسية جديدة تُخرج القوى المركزية من دمشق، وتدمج قوى محلية مثل “قسد” وبعض الفصائل الدرزية في بنية سياسية ترسمها تل أبيب، وربما بتخطيط مباشر منها.
هذه المعطيات تفتح الباب أمام احتمالات تدخل إيراني متجدد، سواء عبر الدعم السياسي والعسكري أو من خلال أذرعها في لبنان والعراق، في محاولة لاحتواء المشروع الإسرائيلي ووقف تمدده. في المقابل، يتباين الموقف العربي الرسمي، بين دول منخرطة في التطبيع أو العلاقات السرية مع إسرائيل، وأخرى ترفض أي مسار لا يُعيد الجولان إلى السيادة السورية الكاملة، ما يعكس انقسامًا إقليميًا صارخًا حول مستقبل سوريا.
في المحصلة، يتضح أن إسرائيل لا تسعى إلى سلام قائم على قرارات الشرعية الدولية، بل تعمل وفق مشروع توسعي يستند إلى فرض تسوية بقوة السلاح، مستغلة الانقسامات الإقليمية والتحديات الداخلية السورية. أما تركيا، فتستثمر نفوذها لحماية حدودها ومصالحها الأمنية، وتسعى في الوقت ذاته إلى منع تحوّل سوريا إلى ساحة مفتوحة للهيمنة الإسرائيلية.
في ختام المطاف، فإن التحدي الجوهري الذي يواجه الدولة السورية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، هو كيفية الحفاظ على القرار السيادي، دون الانجرار إلى صدام مباشر مع إسرائيل، وهو أمر بات صعبًا في ظل تداعيات حرب أهلية استنزفت البلاد لثلاثة عشر عامًا. كما أن الأولويات الوطنية تفرض التركيز على إعادة الإعمار وتثبيت الاستقرار الداخلي، لا خوض مواجهات جديدة قد تُهدد ما تبقى من الدولة.
ورغم تأكيد السلطات السورية أنها لا تشكّل تهديدًا لدول الجوار، في إشارة ضمنية إلى إسرائيل، فإن الأخيرة ماضية في استراتيجيتها التوسعية، واضعة نصب أعينها إعادة تشكيل الخريطة السورية بما يخدم مصالحها الإقليمية. وفي ضوء هذا الواقع، قد تجد دمشق نفسها مضطرة، ولو على مضض، إلى القبول بتسويات من نمط الاتفاقات الإبراهيمية أو ترتيبات إقليمية مشابهة، كخيار لتجنّب حرب شاملة ولحماية الداخل السوري من مزيد من التدهور. فالمعادلة اليوم باتت تقوم على التوازن بين التمسك بالثوابت السيادية، والبحث عن هامش للبقاء في مشهد إقليمي يُعاد رسمه بالقوة، لا بالمفاوضات.