بقلم كوثر شيا
في لحظة محورية من تاريخ السياسات الزراعية والاقتصادية في لبنان، احتضنت السرايا الحكومية مؤتمرًا وطنيًا غير تقليدي بعنوان:
“زراعة القنب بين الواقع والمرتجى”، برعاية رئيس الحكومة الدكتور نواف سلام وتنظيم وزارة الزراعة، بحضور وزراء، نواب، خبراء، وممثلين عن القطاعات الصناعية والطبية والمدنية.
المؤتمر شكّل بداية مسار طويل، لا يقتصر على تقنين زراعة نبتة، بل يطمح إلى تحويل القنّب إلى قطاع إنتاجي متكامل، قادر على النهوض باقتصاد لبنان، وخلق فرص عمل، وتوفير علاجات نوعية.
من نبتة مهمّشة إلى قطاع ناشئ
افتُتح المؤتمر بكلمة لوزير الزراعة الدكتور نزار هاني، شدد فيها على أن المشروع هو “رؤية متكاملة تُعيد الاعتبار للأرض وتربط بين الريف والصناعة، بين السيادة والاقتصاد، وبين الابتكار والعدالة الاجتماعية.”
وأشار إلى أن الوزارة باتت جاهزة من الناحية التقنية والتشريعية، فيما يُستكمل حاليًا تشكيل الهيئة الناظمة التي ستكون حجر الأساس لضمان الشفافية.
أما رئيس الحكومة نواف سلام، فأكد أن زراعة القنب تمثّل فرصة وطنية يجب إدارتها بعناية، موضحًا أن التقديرات الأولية تشير إلى إمكانية تحقيق عائدات سنوية تتجاوز المليار دولار، شرط تفعيل الرقابة والحوكمة.
من الزراعة إلى التصنيع: خارطة طريق متكاملة
وزير الصناعة جو عيسى الخوري اعتبر أن القنب يمثل فرصة استراتيجية غير مستثمرة، مشيرًا إلى دراسة ماكينزي التي توقعت عائدات تصل إلى 4 مليارات دولار.
وأكد على ضرورة إعداد خارطة طريق وطنية تشمل التراخيص، الشراكات، التصنيع المحلي، والمواصفات الدولية.
أما الجلسات الثلاث التي عُقدت خلال المؤتمر، فقد تناولت:
1. الفجوة بين القانون والتطبيق، وضرورة استكمال المراسيم التنفيذية للقانون 178/2020.
2. الاستخدامات الطبية والصناعية، وعرض للأبحاث والدراسات العلاجية والتجميلية.
3. الاستراتيجية الوطنية، مع تركيز على التراخيص العادلة ودعم صغار المزارعين.
توصيات المؤتمر:
1. استكمال المراسيم التطبيقية وتشكيل الهيئة الناظمة وفق معايير شفافة.
2. وضع استراتيجية وطنية متكاملة بين الزراعة، الصناعة، البحث العلمي.
3. دعم صغار المزارعين ومعالجة أوضاعهم القانونية (مذكرات التوقيف وغياب صكوك الملكية).
4. اعتماد آليات رقابة حديثة (مثل الطائرات المسيّرة) لمنع التهريب والاحتكار.
5. تعزيز الصناعات المحلية المرتبطة بالقنب (الدواء، التجميل، البناء، النسيج).
6. تأسيس لجنة وطنية تنسيقية دائمة لمواكبة تنفيذ المشروع.
7. إشراك المجتمع المدني والبلديات في الرقابة والحوكمة.
من قانون إلى تطبيق: الهيئة الناظمة تُبصر النور
بعد تأخير خمس سنوات منذ صدور القانون رقم 178/2020، أعلنت الحكومة أخيرًا في 17 تموز 2025 عن تشكيل الهيئة الناظمة لزراعة القنب للاستخدام الطبي والصناعي، برئاسة الدكتور داني جورج فاضل، وعضوية:
• السيدة ماري تيريز مطر
• العقيد أيمن مشموشي
• السيدة دانا حيدر
• السيد مروان جوهر
• القاضي جوزف تامر
• السيد محمد علي مروة
تشكيل الهيئة خطوة تاريخية طال انتظارها، إذ تمثل النقلة من التشريع إلى التطبيق، ومن الوعود إلى الوقائع.
“هذه الهيئة ليست مجرّد لجنة إدارية، بل نواة لمشروع مجتمعي متكامل، إنساني وإنمائي، يتطلّب دعمًا سياسيًا ومواكبة شعبية لضمان الشفافية، العدالة، والمردود الفعلي للمزارعين والمجتمع.”
التحديات التي لا يمكن تجاهلها:
رغم الأجواء الإيجابية، لا بد من تسليط الضوء على التحديات البنيوية التي رافقت الملف طوال السنوات الماضية، والتي لا تزال حاضرة:
1. تأخير التنفيذ:
القانون أُقرّ عام 2020، لكن التنفيذ تأخر بفعل جائحة كورونا، الشغور الرئاسي، والأزمات الأمنية.
2. المزارعون التقليديون في البقاع:
• 60% من السكان يعتمدون على زراعة “الحشيشة” كمصدر دخل أساسي.
• آلاف المزارعين ملاحقون قضائيًا ويخشون الإقصاء من المشروع.
• فشل الزراعات البديلة وانعدام الدعم جعلهم أكثر هشاشة.
3. التمييز بين “الحشيشة” و”القنب الطبي”:
• القنب الطبي يحتاج إلى بذور مُعتمَدة ورقابة صارمة على نسب THC.
• المزارعون التقليديون قد يُقصَون إذا لم يُمنحوا الدعم الكافي للانتقال إلى الإنتاج القانوني.
4. الخشية من الفساد والاحتكار:
• تحذيرات من محاولات قوى أمر واقع للسيطرة على التراخيص.
• ضرورة ضمان استقلال الهيئة الناظمة عن النفوذ السياسي والطائفي.
5. تحفّظات دولية:
• مخاوف من تسرب المنتجات إلى السوق السوداء.
• دول كالسعودية ومصر تتابع الملف بقلق وتطلب ضمانات رقابية صارمة.
زراعة القنب: بين الأمل والتحفّظ
يُجمع المراقبون أن المشروع يحمل فرصة استثنائية لتحويل الاقتصاد اللبناني من ريعي إلى إنتاجي، شرط أن يُدار بشفافية وعدالة.
“الدونم من الحشيشة يُدرّ 1,500 دولار للمزارع، لكنه يُباع بـ15,000 دولار في السوق السوداء… التشريع لن ينجح إلا إذا حصل المزارع على حصته العادلة.”
الهيئة الناظمة اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن تُصبح منصّة إنقاذ وطنية، أو تتحوّل إلى ملف جديد يُلتهم في زواريب الزبائنية.
مسؤولية جماعية لبناء نموذج لبناني
زراعة القنب لم تعُد قضية قانون فقط، بل اختبار لإرادة الدولة، ومرآة لعلاقة الدولة بمواطنيها. لقد بدأنا مرحلة جديدة، مرحلة التنفيذ بشفافية، والرقابة بشجاعة، والاستفادة بعدالة.
فلنواكب هذه المرحلة بعيون مفتوحة وعقول يقظة، لنبني معًا نموذجًا لبنانيًا رائدًا في القنّب الطبي… نموذجًا يُداوي جراح الناس، ويزرع التنمية في الحقول.