من “شبيبة هتلر” إلى زينب إبراهيم عقيل : حين يتحوّل الولاء الأعمى إلى انتحار جماعي

بقلم الدكتور سايد حرقص

أثار تصريح زينب إبراهيم عقيل، ابنة أحد قياديي حزب الله، عن استعدادها لتفجير نفسها، صدمةً واسعة في الأوساط اللبنانية. لم تكن الصدمة فقط في بعدها الإنساني والشخصي، بل في ما تعكسه من عمق التأثير العقائدي والتعبئة النفسية في صفوف أفراد حزب الله، وخصوصًا فئة الشباب. هذا النوع من التصريحات يعيد إلى الأذهان مشهد “شبيبة هتلر” في ألمانيا النازية، الذين لم يستطيعوا التعايش مع سقوط نظامهم، فاختار كثيرون منهم الانتحار، إذ لم يكن في وعيهم المتشبّع بالعقيدة المتطرفة أي بديل آخر عن الفناء.

أنشأ النظام النازي تنظيم “شبيبة هتلر” ليكون الذراع العقائدية والتربوية بين المراهقين، فخضع هؤلاء لعمليات غسيل دماغ مكثفة، تكرّس من خلالها الولاء المطلق لهتلر، وتُزرع في نفوسهم قناعة أنهم جنود في معركة مقدسة لخدمة “الرايخ الثالث”. ومع انهيار النظام وسقوط برلين، انهار معهم عالمهم العقائدي، فانهاروا نفسيًا، وانتحر كثير منهم لعدم قدرتهم على تقبّل فكرة أن ما آمنوا به لم يكن إلا وهمًا.

لكن المفارقة في الحالة اللبنانية أعمق وأكثر تعقيدًا. ففي ألمانيا، كانت هناك دولة قوية استغلها النظام النازي لتشكيل “شبيبة هتلر” وتوجيههم كأدوات لخدمة أيديولوجيا السلطة. أما في لبنان، فقد أنتج غياب الدولة الفعلية، منذ نهاية الحرب الأهلية، وتحت وطأة الوصاية السورية، وانهيار مؤسسات الحكم في وحول الفساد والمحاصصة، فراغًا قاتلًا ملأه حزب الله. أصبح الحزب بالنسبة لشريحة واسعة، لا سيما في بيئته، “بديلاً عن الوطن”، بل الوطن نفسه. وهنا يصبح الولاء له، ليس مجرد خيار سياسي، بل هوية وجودية غير قابلة للانفكاك.

التنظيمات العقائدية الراديكالية، سواء ذات طابع ديني أو قومي، تتشابه في عنصر جوهري: محو الفرد لصالح الجماعة، وذوبان الشخصية في كيان “القائد” أو “الرمز”. حين تعلن زينب عقيل نيتها تفجير نفسها، فهي لا تعبر عن رأي فردي أو موقف سياسي، بل عن ذوبان تام في العقيدة حتى حدود الفناء الذاتي. إنها تدق ناقوس الخطر باسم جيل من الشبان الذين باتوا رهائن لعقيدة تُقدّس الشهادة أكثر من الحياة، وتُشيطن المختلف أكثر من العدو.

الخطر الحقيقي ظهر بعد فشل “حرب الإسناد” وسقوط مشروع “الردع المتبادل”، حيث وجد حزب الله نفسه، ومعه جمهوره، في مأزق نفسي حاد: عقيدة لا تنتصر، وزمن لا يعترف بشعارات الماضي. يرافق ذلك خطاب تعبوي متطرف من بعض مشايخ الحزب، يُصوّر كل من يسبح أو يغني أو يرقص أو يشرب كأس خمر، على أنه خائن أو عدو وجودي.

إذا استمر الضغط الداخلي والخارجي على حزب الله دون وجود رؤية وطنية واضحة وفعّالة من الدولة اللبنانية، فإن مشهد “شبيبة هتلر” قد يتكرّر، ولكن هذه المرة على أرض لبنان، في الضاحية أو الجنوب، وربما في مناطق أخرى. الفارق أن ضحايا هذا الانتحار الجماعي لن يكونوا فقط من داخل الحزب، بل من خارجه أيضًا، ممن لا ذنب لهم سوى أنهم لا يؤيدون أيديولوجية الحزب أو يرفضون نمط الحياة الذي يسعى لفرضه على الجميع.

الانتحار لن يكون دائمًا ماديًا. فالبعض سيختار الانسحاب الاجتماعي، والانعزال الفكري، ورفض المجتمع والدولة برمّتها، ما يُنذر بتفكك كامل في النسيج اللبناني إذا لم تُتدارك الأمور بسرعة.

إن الحل لا يكمن في الهروب من المسؤولية، ولا في صدام مباشر بين الجيش وحزب الله، بل في وجود دولة حقيقية تُخطط وتنفذ، تمتلك رؤية شاملة لنزع السلاح بطريقة ذكية ومدروسة، تراعي تعقيدات الواقع ومخاطر الانهيار. فإما أن تنهض الدولة، أو نسقط جميعًا في هاوية الانتحار الجماعي باسم “الولاء المقدّس”.

اخترنا لك