سالكةٌ وآمنةٌ وحبقٌ وهدنةٌ ورذاذٌ ومردكوش

بقلم عقل العويط

“سالكة وآمنة”، و”هدنة”، ماذا تعني، قالت له الغريبة. ثمّ أخذته من يده، من ياقة قلبه، من شَعره، وطلبتْ أنْ يشرح لها ماذا يحصل على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي نشرات الأخبار، لأنّها سمعتْ ولم تفهم، ورأتْ، واستهولتْ، وكادت تبكي جرّاء ما ليس قابلًا للتصديق، وتريد أنْ تعرف ماذا يجري في بلده، وأنْ من أين هو، من أيّ منطقةٍ، وقرب ماذا، وبعيدًا من ماذا، ومن أيّ ذاكرةٍ وتاريخ وأحوال، وهو يحاول أنْ يغيّر الموضوع، أنْ يبعدها عنه، أنْ يشدّها إليه، ويتسلّق حائطًا، وجرس كنيسة، ومن مثل أنْ يسألها هل تركتْ أهلها، وفي أيّ عمر، وهل تنام تحت الليل، تحت الله، ومتى يبدأ موسم العنب، موسم الكرز، ولماذا لا يفلحون في بلادها تراب الزيتون، وهل يمكن أنْ تمطر الآن، لأنّه رأى غيومًا بيضاء بيضاء، وهل من أيّ جهةٍ يظهر القمر، والديك كيف يصيح، وكيف يؤتى الحبّ في آخر الليل في آخر النبيذ.

لكنْ عبثًا.

قال لها إنّه هاربٌ من رأسه، من تواريخ عمره، من ضجيج الموت، من وجع الركام، من فجيعة اللغة، وإنّه يتوسّل إليها، ويتضرّع، أنْ لا تسأل، فقط أنْ تأخذه كثيرًا من يده، من نياطه، وأنْ وأنْ، وبدون كلام، وبدون احتفال، لكنّها هي تلحّ وتريد أنْ تسأل عمّا يجري هناك، ولماذا لا يتوقّف القتل، ولماذا ولماذا.

وسألته مَن أنتَ، فسألها من أنتِ، ثمّ حاول أنْ يكلّمها في الفرنسيّة، لكنّها أعربت عن عدم الفهم، عن عدم التجاوب، فهي لا تعرف سوى لغة بترارك، أمبرتو إيكو، أونغاريتي، إيتالو كالفينو، لغة أندريا بوتشيللي، آنّا مانياني، جينا لولو بريجيدا، صوفيا لورين، سيلفانا مانغانو، مونيكا، أي مونيكا بيلوتشي، ودينو بوزاتي، وحارس المرمى الإيطاليّ الشهير جانلويجي بوفون…

قال لها إنّه مغرم بالغرام، بالسينما الإيطاليّة، بالساحرات الآنسات السيّدات الآلهات اللواتي يخطفن الأعمار، ويمشين حافيات، ولا ينمن، ولا يأخذهنّ نعاسٌ وشيخوخة، ويحتللن الشاشة والقفص الصدريّ، وتحته، وحناياه، وجاء هو إلى هنا فارًّا، وفي عطلة، وفي استراحة، وفي لحظةٍ بين موتين، وفي رجاء أنْ يظلّ يجيء، وأنْ ينصت إلى موسيقى اللغة، إلى رقصة الكلمات، إلى سكرة الإيقاع الرومنطيقيّ الغنائيّ في الحكي، في الكلام، في الصمت، ويطلب أنْ لا ييأس بعد الآن، وأنْ لا يموت، وأنْ وأن، ولا يريد أنْ يحكي في الموضوع، موضوع الهدنة، ووقف إطلاق النار، وحروب الكتب والآلهة، والأديان السماويّة وغير السماويّة.

ونزل الرذاذ خفيفًا، فالتحفتْ به، فالتحف بها، وانحلّ الوقت، وانحلّ المكان، ثمّ نزل المطر، وانهمر، فأكملا بين الكروم، تحت الكروم، وكانا يتضاحكان، وكان اليوم يوم أحد، ولا ثمّة امرؤ في الحقل، في الزرّيعة، ولم يرَ شجرة زنزلخت، بل أناجيل الصنوبر والزيتون والهندسة والجلول والأزقّة التي لا خلل فيها، واستولى عليه عطر الحبق، وشقيقه عطر تلك العشبة الماهرة، تلك النبتة، أي المردكوشة، فوضع رأسه فيها، ويديه، وجسمه، ورأى كيف يصبح جسمه هو رائحة الروح، وكيف الغريبة لا تعود غريبة، وكيف هو لا يعود غريبًا، وتحت الرذاذ كأنّها رذاذ، وتبتسم الغريبة، وتضحك، وتقول له “سالكة وآمنة”، وللرذاذ تقول تعال، ولن أمانع، ويمكنكَ، وأيضًا، وإيّاك أنْ ترعوي، وهلمّ، وخذني، وإذا أنْ تكون غيمةً فكن الغيمة، وفوقي تمامًا، وثقلُكَ خفيفٌ، وجيّدٌ، وعميقٌ، وما ألذَّ أنّكَ عميقٌ وحبقٌ وهدنةٌ ورذاذٌ ومردكوش.

اخترنا لك