سوداويات من “سويداء القلب”

بقلم غسان صليبي

“السويداء من القلب” تعني الجزء الداخلي والأعمق من القلب، أو ما يُمكن تشبيهه بـ”قلب القلب” أو “جوهر القلب”.

هذه مقتطفات من أفكار سوداوية راودتني على أثر المجازر المتبادلة في محافظة السويداء في جنوب سوريا، وهي نابعة من حزن في قلب القلب.


عندما يتقوقع أبناء وبنات المذاهب الدينية على بعضهم البعض،
ويبررون قتل الآخرين بإسم الله فقط لأنهم من مذاهب أخرى،
وعندما تهبّ المذاهب لنصرة بعضها بعضاً متخطية الحواجز الوطنية في سوريا ولبنان وإسرائيل، أفقد لغتي وأصبح عاجزاً عن الفهم وعن التعبير.

الكلمات لا زالت في متناول اليد لكنها فقدت معناها.

فماذا يعني “انسانٌ يقتل انساناً آخراً باسم الله”، وهي الجملة التي تختصر مشهد السويداء خلال الأسبوع المنصرم؟

ماذا تعني كلمة “الانسان”، وهل يمكن ان يكون الإنسان واحداً عندما يكون انسان هذا المذهب شريراً بالضرورة وانسان ذاك المذهب خيّراً بالضرورة؟

هل من معنى لكلمة “الإنسانية” في هذه الحالة؟

ماذا يعني “الله”، وهل يمكن ان يكون الله واحداً وهو من يتقاتلون باسمه وكل فريق يدّعي ان الله نصيره؟

هل من معنى في هذه الحالة للكلام عن “الإله الواحد” الذي يوصي بـ”الاّ تقتل” في أولى وصاياه العشر؟

ماذا يعني “القتل”، وهل يمكن للقتل ان يكون واحداً عندما يكون قتل انسان هذا المذهب حلالاً فيما قتل انسان ذاك المذهب حراماً؟

هل يبقى من معنى لفعل “القتل” في هذه الحالة؟

لم يعد من معنى اذا قلتُ او كتبتُ ولو بأحرف من دم “انسانٌ يقتل انساناً باسم الله”.

عندما يسقط المعنى انما نسقط معه ويسقط معنا.


ما الذي كان سيحصل لأهل السويداء لو لم يتدخل العدو الإسرائيلي ويجبر جماعة الشرع على التراجع؟

ما أُعتبر “عمالة” دروز السويداء كان سبباً رئيسياً في تثبيتهم في أرضهم وفي وطنهم، في حين ان ما يُسمّى “وطنية” كان كفيلاً بقتلهم أو بإذلالهم او بتهجيرهم، تماماً كما حصل مع البدو على يد أبناء السويداء في بداية الصراع المسلح بين الطرفين.

فأي معنى للوطنية وللعمالة؟


تنتقل الشعوب من العائلية والعشائرية الى الحزبية، وتنتقل أيضاً
من البداوة الى التحضّر، أي الى الثبات في المكان وبناء العمران،
والدولة هي ابنة التحضّر تاريخياً. في حين ان ما نشهده اليوم هو عودة الى العشائرية والى البداوة، أو الى التهجير وهو ما يشبه حالة البداوة.

فأي معنى لأحزابنا وتحضّرنا ودولنا؟


نلعن “الفدرالية” صباحاً ومساءً ونخلط بينها وبين “التقسيم” ونتّهمها بأنها مشروع خارجي هدفه الحرب الأهلية الدائمة، في حين أننا نعيش منذ عقود في حرب أهلية دائمة وبما يشبه التقسيم، وذلك بإسم “الوحدة الوطنية” وتحت راية الدولة المركزية.

وفي كل يوم تعبّر فيه معظم مواقف وسلوكيات المذاهب والإثنيات عن نزعة فدرالية صارخة.

فأي معنى للتقسيم وللفدرالية وللحرب الأهلية وللدولة الواحدة المركزية؟


الشوارب عند الدروز رمزٌ عميق للكرامة والهوية والانتماء الديني، ويبدو ان مشايخ الدروز لا يقصّون شواربهم حتى الممات، واذا قصَّ أحدهم شارب شيخ بالقوة فيُعتبر ذلك إهانة كبيرة له ولعقيدته.

في المقابل يُنقل من حديث ابن عمر عن النبي محمد قوله “قصوا (او حفّوا) الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين”. لذلك يلجأ الاصوليون السنة الى قص شواربهم أي تقصيرها وليس حلقها، في حين انهم يحلقون شوارب “المشركين”، ويبدو ان من بينهم الدروز، بحسب اعتقادهم.

في الأعراف البدوية تُعد القهوة رمز الكرامة والضيافة، ودقّ النجر- وهو الهاون الخشبي المستخدم لطحن البن – بمثابة إعلان عن استقبال الضيوف أو إبرام صلح أو بدء مناسبة اجتماعية. ولذلك فإن التوقّف عن دقّ النجر وتحريم شرب القهوة يعني أن الأمور خرجت عن إطار الودّ، ودخلت في طور الخصومة العلنية، بل والمواجهة أحياناً لحين تحقيق الهدف.

وهكذا فقد توقف البدو عن دق النجر وحرَّموا شرب القهوة بعد أن أعلنوا النفير العام وقرروا مهاجمة دروز السويداء.

ما معنى الشارب وما معنى القهوة والنجر، عندما يأمر نتنياهو، وهو حليق الشارب واللحية، طائراته بقصف سوريا، ويجبر الجميع، أصحاب اللحى والشوارب، على وقف إطلاق النار، ويبلغ ترامب بذلك فيما هو يحتسي القهوة على الهاتف؟


ربما بات عليّ ان أختار شجرة في هذه الغابة التي اسمها المشرق العربي، استلقي في ظلّها وانتظر بسلام مجرماً يجد في هويتي المذهبية قتيلاً مناسباً لقضيته.

سأجري معه مقايضة: أعده بأنني أرفض ان أكون شهيدا وهذا ما يشتهيه ليعطي جريمته كل معناها، مقابل ان يعدني بالّا يبوح لي ولغيري بهويته المذهبية.

لعل القتل عندها يسترجع معناه الحقيقي والوحيد: فالقتل هو قتل والقاتل هو مجرد قاتل والقتيل مجرد قتيل.

اخترنا لك