عبثية “التساكن” في جهنم

بقلم رفيق خوري

سياسة التهويل على لبنان واللبنانيين مزدهرة على الجانبين: جانب الذين ضربتهم التحولات الإقليمية المتسارعة، وجانب الذين يقفون وراء التحولات. ولا أحد يتحدث عما هو أقل من “خطر وجودي”. والمسألة ليست أن نكون أو لا نكون في خطر وجودي. المسألة هي أن نقرأ في كتاب واحد، ونتفق على تحديد الخطر، ونقرر كيف ندفع الخطر وبماذا، وكيف نتجنب كالعادة تضييع الفرصة المفتوحة أمامنا. والتحدي هو “قطع الروبيكون” على ما قيل في روما القديمة، وليس الوقوف على حافة النهر وانتظار ما ومن تحمله المياه إلى البحر. فليس أخطر من عجز “الجديد” عن مواكبة التحولات سوى إصرار “القديم” على مواجهة التحولات والتصرف كأن من السهل العودة إلى ما قبل مفاعيل التحولات هنا وفي المنطقة.

ولا مهرب، في البدء، من الاعتراف بأن ما يحمي اللبنانيين من الخطر، وجوديًا كان أو لا، هو الدولة وقوة الشرعية، لا أي سلاح خارجها. فما من تهديد وجودي لطائفة واحدة دون بقية الطوائف. وما من حل خاص بطائفة واحدة. فلا سلاح “حزب الله” حمى الشيعة وكل لبنان من إسرائيل في “حرب الإسناد”، ولا هو يمكن أن يحمي الشيعة من “تهديد وجودي” يكرر الشيخ نعيم قاسم الكلام عليه. ولا أي طائفة تستطيع حماية نفسها. ولا البلد متروك لقدره في البقاء رهينة قوة خائفة توحي أنها لا تزال مخيفة.

ذلك أن التحولات ضربت “محور المقاومة” بقيادة إيران وأخرجت لبنان منه. وهو اليوم، أقله على المستوى النظري في الحسابات الاستراتيجية، جزء من “هندسة” جديدة للمنطقة برعاية أميركية وأوروبية وعربية. وهذا خياره وليس خيارًا مفروضًا عليه. وأي محاولة لإخراجه من هذه “الهندسة” ترميه في قلب الخطر من جديد. فالموفد الأميركي توم براك يقول بصراحة إنه “إذا لم يعالج لبنان سلاح “حزب الله”، فإنه يواجه تهديدًا وجوديًا”. ومن الوهم مواجهة هذا التهديد من خارج الرعاية الأميركية والأوروبية والعربية والتي هي الضمان في مواجهة الخطر الإسرائيلي عليه. والسفير الفرنسي هيرفي ماغرو دعا بصراحة إلى “عدم انتظار سنوات لحسم الخيارات، لأن الواقع سيصارع لبنان إذا تجمدت جهود السلام”. والموقف في الرياض شديد الوضوح في ضرورة الحسم.

كان ماوتسي تونغ يقول “إن كل مشكلة يمكن تقسيمها إلى مشكلة أساسية ومشكلة فرعية” لبدء الحل. لكن ما يحتاجه موضوع السلاح ليس تقسيم المشكلة بل تسهيل الحل بقوة الشرعية اللبنانية. والتردد من جهة، والعناد من جهة أخرى، يقودان إلى خطر لا مبرر له، هو ترك المعالجة للمطرقة الأميركية والعصا الإسرائيلية، مع ما في ذلك من دمار وضحايا وتغوّل على البلد. لا بل إن الموقف الصارخ الذي يعلنه الشيخ نعيم قاسم بالقول: “لا نسلم سلاحنا لإسرائيل” هو مع الرفض المعلن لتسليم السلاح إلى الدولة، محكوم بالتدمير على يد العدو.

وليس من المعقول أخذ لبنان من جديد إلى حرب دائمة صار عمرها مئة عام تحت عنوان فلسطين، وأصبحت جزءاً من مشروع إقليمي إيراني تعرض مؤخراً إلى ضربات شديدة. ولا من المقبول وضع لبنان أمام خيار بين حربين أهليتين بعد 15سنة من حرب أهلية وإقليمية ودولية: واحدة حارة يهدد بها “حزب الله” في حال جرى التعرض لسلاحه. وثانية باردة مع بقاء السلاح واستمرار التجاذب الوطني والسجال السياسي في وضع مأزوم ومأسوي، حيث لا اقتصاد، لا إصلاح، لا استثمارات ومساعدات، لا إعادة إعمار، ولا بناء دولة. فلا أحد يضمن تقديم الأموال لإعادة الإعمار من دون ضمان أساسي وإعلان نهاية الحرب. ولا إمكان لنهاية الحرب قبل أن يصبح قرار الحرب والسلم في يد الشرعية.

وقمة العبثية هي الهرب من الحل عبر الخلاف على تصنيف السلاح. أميركا تقول للمسؤولين إن سلاح “حزب الله” هو “مسألة لبنانية” حلها في بيروت. والمسؤولون يقولون لأميركا إن السلاح “قضية إقليمية” حلها بين واشنطن وطهران. وقمة السوريالية في غياب الحل هي “التساكن” في بلد واحد ومرحلة واحدة بين الشرعية اللبنانية ومعها الشرعية العربية والدولية وبين سلاح “حزب الله” والاحتلال الإسرائيلي للتلال الخمس مع حرية القصف في أي مكان من لبنان لبنية “المقاومة الإسلامية” العسكرية والتي هي حاليًا مقاومة مع وقف التنفيذ. وهذا وضع يصح فيه الكلام على العيش في جهنم التي دخلناها بهمة العهد الماضي. ولا فرق بين الخوف والعناد، لأن النتيجة هي مقاومة الخروج من جهنم. و”الحروب ليست حوادث عابرة، ويجب إدارة الخطر في مواجهة التصعيد” حسب الأستاذة في معهد “ام.اي.تي” أريك لين غرينبورغ.

اخترنا لك