بقلم الدكتور سايد حرقص
في خضم التجاذبات السياسية الراهنة في لبنان، يتصاعد الحديث عن مصير سلاح “حزب الله” وتبعاته على المشهد اللبناني الداخلي والخارجي. في الوقت الذي يشدد الرئيس اللبناني جوزيف عون على حتمية تطبيق قرار حصرية السلاح، مع التأكيد على مراعاة وحدة لبنان والسلم الأهلي، برزت معلومات نشرها تلفزيون العربية/الحدث ، نفتها مصادر مقربة من “حزب الله” لاحقًا، عن رفض الحزب تسليم سلاحه حتى في حال انسحاب إسرائيل، وتأكيده استعداده للمواجهة إذا ما قررت الدولة اللبنانية المضي قدمًا في هذا المسار. ورغم النفي، فإن تأثير الخبر كان كبيرًا، حيث طغى على زيارة الموفد الأمريكي وتصريحاته، ودفع اللبنانيين عامة و الجنوبيين خاصة، إلى إعادة تقييم حساباتهم. إن عدم تجاوب “حزب الله” مع المساعي اللبنانية وغياب المرونة بشأن الجدول الزمني الأمريكي لتسليم سلاحه يضع لبنان أمام خيارات صعبة، قد تؤدي إلى تحويل لبنان عامة والجنوب خاصة إلى “غزة جديدة” أو الدخول في صدام داخلي لا تُحمد عقباه.
إن التصريحات الشعبوية التي يطلقها بعض قياديي “حزب الله” تزيد حتمًا من الضغوط الدولية والداخلية على لبنان. هنا يطرح السؤال نفسه: هل سيؤدي استمرار هذا النهج إلى خلافات مع الدولة اللبنانية وحتى داخل الطائفة الشيعية نفسها حول جدوى استمرار المواجهة المفتوحة وغير المحسوبة النتائج مع المجتمع الدولي؟ وهل سيؤدي تهور “حزب الله” إلى تكرار مغامرات العماد ميشال عون سنة ١٩٨٩ وما نتج عنها من ويلات لا تزال محفورة في الوعي الجماعي اللبناني؟
لقد أظهر الرئيس نبيه بري حرصًا شديدًا على تجنب أي صدام داخلي قد يهدد وحدة الطائفة الشيعية. فخبرته في الحرب الأهلية جعلته يدرك أن أي خلاف دموي مع “حزب الله” أو أي مواجهة غير مدروسة مع إسرائيل ، قد يجر “حزب الله” لبنان إليها للهروب من الضغوطات الداخلية والخارجية، لن تؤدي سوى إلى مزيد من الخسائر والويلات وسيدخل الشيعة خاصة، والدولة اللبنانية عامة، في دوامة نزيف لا طائل منها، شبيهة بما حدث للمسيحيين قبل ثلاثة عقود. من هنا، يمكن فهم الموقف الحذر الذي يتبناه بري؛ فرغم اختلافه مع “حزب الله” في مقاربة الملفات الداخلية، إلا أنه يرفض فتح جبهة داخلية أو خارجية قد تكون مدمرة للشيعة أولاً وللبنان ثانيًا. ليس هذا حبًا في السلاح، بل إدراكًا لحقيقة تاريخية مفادها أن النزاعات بين الحلفاء، أو المواجهات غير المدروسة والمتوازنة مع عدو لا يعرف الرحمة، ستتحول إلى صراع وجودي لا تترك خلفها إلا الندم والدمار.
لكن، إذا استمر الضغط الدولي، سياسيًا واقتصاديًا والضغط الإسرائيلي عسكريا عن طريق الاغتيالات والغارات المتنقلة واستمر “حزب الله” على موقفه الرافض لأي حل لمسألة سلاحه، مما سيضع الشيعة خاصة ولبنان عامة أمام الدخول في مواجهة مدمرة ومكلفة مع المجتمع الدولي عامة وأمريكا وإسرائيل خاصة، فهل سيصمد الرئيس بري ويراهن بتاريخه ومستقبل عائلته السياسي ويعرض نفسه لعقوبات دولية من أجل وحدة الشيعة؟ هل يمكن أن نشهد انغلاقًا طائفيًا يذكرنا بما عاشه الألمان زمن النازية، حين انخرطوا في مسار عبثي من الانتحار الجماعي دفاعًا عن مشروع خاسر؟
باتت جميع هذه الأسئلة اليوم مشروعة، وجميع الاحتمالات واردة. فإذا شعرت أي مجموعة أو طائفة أن كيانها في خطر وأن وجودها مهدد، فقد تتجه نحو التطرف، أو ما يُعرف في علم النفس الجماعي بـ “رد الفعل الدفاعي الجماعي”. لذلك، فإن المسؤولية الكبيرة تقع اليوم على أكتاف الرئيس بري لإيجاد الحلول المناسبة وعقلنة الخطاب الشعبوي “الانتحاري”، خاصة بعد أن بات الرئيس بري يمثل العقل المفكر للطائفة الشيعية بعد أن فقد “حزب الله” قائده التاريخي السيد حسن نصر الله في حرب الإسناد.
في النهاية، ما يحتاجه لبنان اليوم ليس حرب إلغاء جديدة، ولا شعارات انتصارات وهمية لا تقرأ موازين القوى الدولية، بل قرار جدي من السلطة اللبنانية يؤدي إلى حلول واقعية تُنقذ ما تبقى من الدولة. والشيعة مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالتعقل والواقعية والتخلي عن أوهام الإمبراطورية الفارسية من أجل صياغة دورهم الوطني ضمن معادلة تضمن كرامتهم، وتحفظ وحدة البلد، وتمنع الوصول إلى كوارث لا تُحمد عقباها.