بقلم أحمد عياش
تتجمع الغيوم مجددًا في سماء لبنان. وتختلف هذه الغيوم بالطبع عن أقرانها التي تحمل صفة غيوم الصيف التي قررت الطبيعة مسبقًا أنها عابرة. وتشبه غيوم اليوم تلك التي تجمعت في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام لتنفجر مساء الرابع من آب 2020 فتحدث اكبر انفجار غير نووي في التاريخ. اننا نتحدث هنا عن انفجار مرفأ بيروت الذي اقتربت الذكرى الخامسة له الشهر المقبل.
أقام “لقاء اللبنانيين الشيعة” أول من أمس ورشة عمل تحت عنوان “ثقافة العنف: حريات… وانتهاكات” بدعم من “أمم للتوثيق والأبحاث”. وانقسمت الورشة الى جلستيّن: الأولى، بعنوان ” من الترهيب الى الاغتيال: من يحمي من يحاسب؟”. وتحدث فيها المحاميان ايلي كيريللوس ومجد حرب عن “دور الدولة والقضاء في حماية المعارضين”. والثانية، بعنوان ” نمطية الانغلاق والعنف في المجتمع الشيعي” تطرقا فيها الاستاذان الجامعيان علي مراد وداوود فرج الى “ثقافة المجتمع المغلق وتعميم العنف، وجهة نظر سيكولوجية”. وادار الجلستيّن تباعا جاد الاخوي وجاد شحرور.
تضمنت الورشة الكثير من المعطيات والأفكار التي تتابع أحوال لبنان عمومًا والشيعة خصوصًا. ويتكوّن لدى المستمع انطباع أن لبنان ما زال في دائرة الخطر الذي يمثله “حزب الله” المستمر في مشروعه المسلّح والمستند الى رواسب حقبة انتجت فراغا ما زال قائما حتى الآن على مستوى السلطة لا سيما منها القضائية.
يتولى الكراس الذي جرى توزيعه خلال الورشة من ضمن منشورات أخرى، توضيح دائرة الأخطار التي ما زال لبنان قابعًا فيها وحمل عنوان “أـشباح العنبر الرقم 12” الذي هو تحقيق أعده كريستوف بولتانسكي ونشره في 3 تموز 2023 في مجلة “أمنستي انترناشيونال لا كرونيك” الفرنسية، تناول فيه انفجار مرفأ بيروت. وجاء في التحقيق:” جوزيف سكاف، منير أبو رجيلي وجو بجاني: ثلاثة اغتيالات ملغزة مرتبطة بانفجار المرفأ. كما دفنت هذه الملفات ، يخشى على تحقيقات القاضي بيطار من المصير عينه”.
يضيف التحقيق: “يعتبر لقمان سليم من أوائل من ادانوا النظام السوري وحليفه اللبناني” ولم ينج سليم بدوره من الاغتيال في 3 شباط 2021. ويورد التحقيق في هذا السياق انه “منذ البداية، ولتجنب الضياع في متاهات هذا الملف، قدم لقمان سليم قراءته: “نحن امام فسيفساء”. لجمع احجارها وتفاصيلها، من المستحسن النظر الى المشهد ككل.” وتحدث لقمان سليم عن “جريمة حرب” بتوقيع روسيا وسوريا و”حزب الله”.
وتضمن التحقيق خلاصات بينها: “اغتيال لقمان سليم قد لا ينفصل عن اغتيالات أخرى. فالجرائم الكبرى زلازل تتبعها بلا ريب هزّات ارتدادية. بعد انفجار المرفأ وقعت عدة اغتيالات نفّذها على ما يبدو محترفون. تلتها تحقيقات لم تفض الى نتائج قضائية تذكر. فأغلقت الملفات على عجل بغياب الدليل ، وبتغييب المشتبه بهم”.
تفسح الخلاصة الأخيرة النظر الى ما هو أبعد من الواقع المرير الذي يعيشه لبنان منذ زمن طويل الا وهو واقع “الإفلات من العقاب”. علما ان هذا الواقع يخضع لاستثناءات عدة عندما يتعلق الامر بمن لا حول لهم ولا قوة من المواطنين والمواطنات الذين تسرع العادلة اليهم في قضايا لا صلة لها بالاحداث الكبرى على غرار انفجار المرفأ. واتت الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على “حزب الله” وبلغت ذروتها في أيلول الماضي بتفجير الاف أجهزة البيجرز واغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله لتشير الى انه من غير المسموح للسلطة أيا كان علوها في لبنان ان تتدخل في وقف تداعيات هذه الحرب التي شّنت على ارض لبنان من دون إستئذانه.
كانت مفارقة نادرة في التناقض الذي نشب يوم اول امس الجمعة بصورة غير مباشرة بين رئيس الجمهورية جوزاف عون وبين “حزب الله” عندما اعلن الأول انه يقوم شخصيا باتصالات مع الحزب لحل مسألة السلاح، ولو ان “هذه المفاوضات تتقدم ولو ببطء”. فاتى الرد من “حزب الله” ليقول بلسان عضو مجلسه السياسي الوزير السابق محمود قماطي: “لن ننخدع بشعار حصرية السلاح الذي لا يعني المقاومة التي تدافع عن لبنان “.
إذن، سقطت نظرية “حصرية السلاح” بالكامل عند “حزب الله”، ما يعني ان سلاح الحزب باق الى جانب سلاح الدولة. وسقط بالتالي كل رصيد العهد الحالي القائم على خطاب القسم عندما تسلم منصب رئاسة الجمهورية في بداية السنة الحالية. كما سقط كل رصيد الحكومة التي يترأسها نواف سلام القائم على البيان الوزاري الذي يتعهد تحقيق “حصرية السلاح”.
يكرر اللبنانيون حاليا السؤال الشهير الذي ينسب الى وليد جنبلاط “الى أين”؟ وينطوي السؤال على مرارة اكثر مما ينطوي على تطلع لمعرفة مآل أوضاع لبنان.
بدأ يأتي الجواب تباعا من لديهم الخبر اليقين، وفي مقدمهم المبعوث الرئاسي الأميركي توم برّاك الذي ودع وطن الإباء هذا الأسبوع بما يشبه النعي لاحوال بلد سارع هو قبل أعوام الى استعادة جنسيته. قال برّاك من دون أي لبس ان الجواب، كما المح، سيأتي من إسرائيل بعدما اخذت الأخيرة على عاتقها في الخريف الماضي انهاء ترسانة “حزب الله”.
لا يفلت مرتكبو الجرائم الكبرى في لبنان من العقاب. وكذلك، لن يفلت من يتسبب بالانفجارات الكبرى من النتائج على غرار ما فعله “حزب الله” في حرب تموز 2006 ونجا، ثم كرر فعلته في 8 تشرين الأول 2023 وكاد ان ينجو. ولكن تبدو الثالثة ثابتة من خلال ممانعة الحزب الامتثال الى اتفاق وقف اطلاق النار 27 تشرين الثاني 2024.
اشتهر الفنان الراحل زياد الرحباني بعبارة “بعدنا طيبين قولوا الله”. رحل زياد امس واودعنا عبارته التي نستعيدها، ولبنان الذي احب زياد حتى الثمالة، يترقب مجددا ما سيحمله أيلول المقبل وهو على مسافة أسابيع قليلة من توقعات تفيد بأن إسرائيل ستمضي قدما وعلى طريقتها في حل ملف سلاح “حزب الله” بعدما قرر الحزب ولم يخالفه حتى الان المسؤولون الا يتخلى عن السلاح. نكرر ما قاله زياد :”قولوا الله”!