ودائعاً لنفس كانت لغة التعبير لديه تخاطب خاطر كل لبناني

بقلم بسام سنو
@sinno_bassam

في زمنٍ كان فيه الوطن يُمزق على وقع الرصاص، وكانت ملامح الشوارع والقلوب مشرّحة بالحروب والدموع، كان هناك شخصٌ واحد، أو بالأحرى ظاهرة فنية، استطاعت أن تنقل مرارة الواقع بمزيج من الفكاهة والسخرية المُرّة، وتترك بصمةً غير قابلة للزوال في ذاكرة كل لبناني.

إنه زياد الرحباني، الذي ما كان يوماً مجرد موسيقي أو كاتب أو مخرج، بل كان فيلسوفاً عصريّاً لم يقتصر تعبيره على الألحان والكلمات، بل تعداها إلى مشهدٍ مسرحي وثقافي ينبض بعذابات هذا الوطن المنكوب.

صوت الشارع اللبناني

من خلال مسرحياته المتميزة مثل نزل السرور ، وبالنسبة لبكرا شو ؟، وفيلم أميركي طويل، كان زياد الرحباني يطبع بالكلمات إيقاع الشارع اللبناني، ويرسم على خشبته صورةً لما كان يعيشه كل لبناني في تلك الفترة العصيبة. كان يدعو السياسيين إلى حساب أنفسهم على ما فعلوه بهذا البلد، لكن بطريقته الخاصة، التي جمعت بين السخرية الحادة والجدية العميقة. كانت كلماته، رغم قسوتها، لمسة من العاطفة الخالصة التي لا يمكن إلا أن تجد صداها في نفس كل لبناني، مهما كان موقعه السياسي أو الاجتماعي.

في غمرة الزمن الصعب، يمكن أن يُنظر إلى زياد الرحباني على أنه جبران خليل جبران هذا العصر، حيث كلماته تحمل عواطف قومه وآلامهم، وكأنها تكتب بجوارحٍ حية تنبض بالحياة. كان يحمل في صوته قوة القصيد، وفي موسيقاه فلسفة الروح. كنا نراه في كل كلمة يكتبها وكل مقابلة يجريها ، وكل لحن يبتكره، وكأنه يخلّد عذاباتنا وانتصاراتنا التي لا تُنسى. إنه فيلسوف الحرب الأهلية كما كان تولستوي في رواياته؛ يتأمل في الإنسان، وفي مصيره، وفي ما نفعله ببعضنا البعض.

وإذا كانت الموسيقى في وقتٍ ما هي سيدة المواقف التي تحكي القصص غير المُحكية، فإن زياد أضاف إليها لوناً مميزاً وجعلها متسقة مع الحياة على خشبة المسرح وفي الحياة اليومية. كان مُلهمًا، بعيدًا عن السطحية، كان أكثر من مجرد ترفيه، كان صرخة حقيقية في وجه الظلم، موجة في بحرٍ عميق من الإحباطات السياسية والاجتماعية.

خسارة لا تعوّض، ومسيرة لا تنتهي

إن الحديث عن زياد الرحباني اليوم هو حديث عن خسارة غير قابلة للتعويض، عن فنان وُلد ليحكي قصصًا بلغة لا تشبه غيرها، من خلال فنٍ حيّ لا يموت. في وقتٍ أصبح فيه من الصعب أن نجد من يتجرأ على انتقاد الوضع السياسي بجرأة وواقعية كما فعل زياد، أصبحنا ندرك أكثر من أي وقتٍ مضى أنه رغم مرور الزمن، ورغم التغيرات التي قد تطال معظم الأشياء، تبقى أعمال زياد الرحباني خالدة لا يُمكن أن تمحى من الذاكرة الجماعية للمجتمع اللبناني.

لكن زياد، برغم هذا الحزن الذي يحيط به من كل جهة، يبقى جزءاً حياً من تاريخ لبنان. قد يكون رحل عنّا في جسده، لكن إرثه الفني سيظل مُنيرًا للأجيال القادمة، مرهمًا يُخفف الألم، وكلماتٍ تحمل الحكمة، كما كان يحملها جبران أو أي فنان آخر سكن في قلوب شعبه.

وداعًا لزياد الرحباني، ولكن كيف يمكن أن نقول وداعًا لفنانٍ لم يمت، ولم تزل أعماله تتنفس بين أيدينا؟

اخترنا لك