غزة تُجَوَّع حتى الموت : شبح الإبادة والمجتمع الدولي في قفص الاتهام

بقلم د. عبد العزيز طارقجي

في الوقت الذي يلتفت فيه العالم إلى صراعات دولية متعددة، تنزلق غزة بصمت نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث. لم يعد الأمر يتعلق فقط بعدد الضحايا أو دمار المنشآت والبنى التحتية، بل بتجويع جماعي ممنهج، يطال أكثر من مليوني إنسان، غالبيتهم من الأطفال والنساء. ما يجري في غزة اليوم لم يعد مجرد “حرب”، بل تحوّل إلى سياسة إبادة بوسائل متعددة، وصلت إلى استخدام الجوع كسلاحٍ خبيث لكسر إرادة شعب بأكمله.

المجاعة كسلاح، جريمة ضد الإنسانية

وفقاً للمادة (8/2/ب/xxv) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن “تجويع المدنيين عمداً كوسيلة من وسائل الحرب” يُعتبر جريمة حرب. كما تنص المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على حظر مهاجمة أو تدمير أو نقل الأعيان الضرورية لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل المواد الغذائية ومرافق المياه.

ورغم وضوح هذه النصوص، فإن الوقائع الميدانية تشير إلى فرض حصار خانق، ومنع إدخال المواد الغذائية والمياه والوقود، بل وقصف الشاحنات والإغاثات في بعض الحالات.

تجاوز السردية العسكرية، ليست حرباً ضد حماس

منذ اندلاع التصعيد العسكري الأخير، تحاول الرواية الرسمية تصوير الأمر كصراع بين إسرائيل وحركة حماس. لكن الحقيقة على الأرض، التي توثقها صور الأقمار الصناعية، وتقارير وكالات الإغاثة الدولية، وتسجيلات الأطباء والناشطين، تكشف عن استهداف منهجي للبنية التحتية المدنية، لمخيمات النازحين، للمستشفيات، والمخابز، وحتى فرق الإسعاف. الحرب لم تعد تفرّق بين مقاتل ومدني، بل باتت تكسح من الجانبين “يميناً وشمالاً”، دون تمييز أو تناسب.

لقد تحوّلت العملية العسكرية إلى سياسة عقابية جماعية، وهو ما يخالف المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر العقوبات الجماعية ضد السكان المدنيين.

استهداف المنشآت الطبية والإعلامية ونقاط توزيع المساعدات: انتهاكات جسيمة ترتقي لجرائم حرب لم تقف الهجمات عند حدود المدنيين العُزّل أو البنية التحتية الحيوية، بل طالت بشكلٍ متكرر المنشآت الطبية، الصحافيين، ونقاط توزيع المساعدات الإنسانية، في استهداف ممنهج يُمثّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.

تنص اتفاقية جنيف الرابعة، المادة (18)، على أن “الوحدات الطبية لا يجوز أن تكون هدفاً للهجمات، ما دامت لا تُستخدم لأغراض تُخرجها عن طابعها الإنساني.” وتؤكد المادة (12) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 على ضرورة احترام وحماية المنشآت الطبية في كل الظروف.

ورغم هذه النصوص، تم توثيق عشرات الحالات لقصف المستشفيات، سيارات الإسعاف، وفرق الإنقاذ، بما فيها منشآت تديرها منظمات دولية كـ”الأونروا” و”أطباء بلا حدود”. كما استُهدف صحافيون يرتدون شارات واضحة أثناء تغطية الأحداث، في مخالفة مباشرة للمادة (79) من البروتوكول الإضافي الأول.

أما نقاط توزيع المساعدات، التي يُفترض أن تكون محايدة، فقد كانت هدفاً مباشراً، بما في ذلك قصف طوابير مدنيين ينتظرون الخبز أو المساعدات الغذائية. وهذا يُخالف المادة (70) من البروتوكول ذاته، التي تُلزم أطراف النزاع بتسهيل إيصال الإغاثة الإنسانية.

كما تنص المادة (8/2/ب/iii) من نظام روما الأساسي على أن “توجيه الهجمات عمداً ضد موظفين أو منشآت أو وسائل نقل تشارك في مهمة إنسانية أو لحفظ السلام… تُعد جريمة حرب”. هذه الانتهاكات المتكررة، لا تُبرَّر تحت أي ذريعة أمنية، وتدلّ على سياسة ممنهجة لتعطيل الإغاثة وتكميم الإعلام، ما يُقارب مفهوم الإبادة التدريجية.

صمت المجتمع الدولي، تواطؤ أم عجز؟

إنّ تردّد مجلس الأمن في إصدار قرارات ملزمة، واكتفاءه ببيانات “القلق”، يطرح تساؤلات جدّية حول فاعلية المنظومة الدولية. كما أنّ تقاعس بعض الدول المؤثرة عن استخدام نفوذها لفرض وقف إطلاق النار، يُعد إخلالًا جسيماً بواجباتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً المادة (1) التي تؤكد على اتخاذ تدابير فعالة لحفظ السلم والأمن الدوليين.

لا يمكن فهم هذا الصمت الدولي إلا كتواطؤ ضمني، يُسهم في إطالة أمد المجاعة والقتل الجماعي، رغم أن المعلومات متاحة وواضحة للعالم.

واجبات قانونية على الأمم المتحدة والدول

بات لزاماً على الأمم المتحدة، ومؤسساتها العاملة في المجال الإنساني، اتخاذ خطوات عملية لا تقف عند حدود التصريحات، منها:

إرسال بعثة دولية عاجلة لتقصي الحقائق بشأن استخدام التجويع كسلاح.
تفعيل المادة (99) من ميثاق الأمم المتحدة التي تمنح الأمين العام التدخل الفوري عند وجود تهديد للسلم.
فرض ممرات إنسانية محمية لإدخال المواد الغذائية والطبية، استنادًا إلى المادة (70) من البروتوكول الأول.
تفعيل الولاية القضائية العالمية لمحاكمة مرتكبي هذه الجرائم إذا تعذّر اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.

الإنسانية على المحك

ما يحدث في غزة لم يعد شأناً فلسطينياً فحسب، بل اختبارًا صارخًا لضمير الإنسانية والنظام القانوني الدولي. لقد بدأت الحرب بالقتال، لكنها اليوم تُستكمل بالمجاعة، بالحصار، وبالقتل البطيء. وإنّ موازنة هذا الواقع القاتل بخطابات جوفاء عن “حق الدفاع” هو تواطؤ سياسي وقانوني خطير.

إن العالم اليوم أمام لحظة فاصلة، إما أن يتحرّك عاجلاً لوقف هذا الانحدار نحو الإبادة الشاملة، أو يتحمّل وصمة “جريمة القرن” التي ستُلاحق الضمير العالمي لعقود.

أصوات الأطفال الجوعى، وصرخات النساء تحت الأنقاض، وأنين المصابين الذين تُغلق في وجوههم أبواب المستشفيات، تدوّي في ضمير البشرية الذي يقف عاجزًا عن حماية الأبرياء.

إن إنقاذ المدنيين في غزة لم يعد خياراً… بل واجبٌ قانوني، أخلاقي، وإنساني قبل أن تُدفن معهم ما تبقّى من شرعية المجتمع الدولي.


* باحث في الانتهاكات الدولية لحقوق الإنسان، صحافي استقصائي ومتخصص في قضايا مكافحة الإرهاب

اخترنا لك