اللجنة الأمنية لـ “حزب الله” : كيان أمني موازٍ للدولة

كم من فظائع ارتكبت باسم اللجنة؟

بقلم نخلة عضيمي

طوّر “حزب الله” عبر السنوات منظومة أمنية وعسكرية خاصة به تعمل بالتوازي مع مؤسسات الدولة. ومن أبرز تجلّيات هذه المنظومة “اللجنة الأمنية” التابعة لـ “الحزب”، والتي تقوم بالتنسيق مع بعض الأجهزة الرسمية. هذا الواقع، خلق ما يشبه الدولة الموازية داخل لبنان، حيث باتت سلطة “حزب الله” الأمنية تتداخل مع صلاحيات الأجهزة الشرعية. وأثار وجود هذه اللجنة إشكالات عديدة حول ازدواجية السلاح والسيادة، ما كرّس ما يُعرف بـ ”المربعات الأمنية”.

دور اللجنة والتنسيق مع الأجهزة الرسمية

ليست اللجنة الأمنية لـ “حزب الله” هيئة رسمية منشأة بقانون، بل هي إطار غير شرعي يقوم مقام جهاز أمني موازٍ. ورغم عدم اعتراف الدولة بها قانونًا، فهي تمارس تنسيقًا أمنيًا فعليًا مع بعض المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية. ويشير مراقبون إلى أن هذه اللجنة تعمل على تبادل المعلومات والتنسيق الميداني بين “الحزب” والجيش في بعض المناطق الحساسة، ما يعني اعترافًا ضمنيًّا من الدولة بدور أمني لـ “الحزب” خارج إطارها الرسمي. وقد انتقد سياسيون لبنانيون هذا الواقع، معتبرين أن الجيش ليس شريكًا لـ “حزب الله” وينبغي إنهاء هذه اللجنة الموازية.

منذ أيام، دعا رئيس حزب “الكتائب” سامي الجميّل صراحةً إلى إلغاء اللجنة الأمنية وإلغاء بطاقات التسهيل الممنوحة لعناصر “الحزب”، مؤكدًا وجوب أن يستعيد الجيش اللبناني كامل صلاحياته دون أي شراكة أو وصاية. هذا التنسيق الملتبس يطرح إشكالية حول سيادة القرار الأمني: فمن جهة، تظهر الدولة كأنها بحاجة لتعاون “الحزب” لضبط الأمن، ومن جهة أخرى يُعزز ذلك نفوذ “الحزب” ويجعله شريكًا ندّيًا للأجهزة الشرعية.

تعارض مع دور الدولة ومؤسساتها

يتناقض وجود لجنة أمنية لحزب سياسي مسلح جوهريًا مع دور الدولة الحديثة. فالدولة وحدها تحتكر استخدام القوة المسلحة الشرعية ضمن حدودها، وتكون أجهزتها الأمنية والعسكرية هي المخوّلة حفظ الأمن وإنفاذ القانون. أما اللجنة الأمنية لـ “حزب الله” فتقوم عمليًا بدور أمني في مناطق نفوذ “الحزب”، ما يعني تقويض دور المؤسسات الرسمية هناك. فعندما تقوم ميليشيا بأعمال المراقبة والتفتيش أو ضبط الأمن بمعزل عن الأجهزة الشرعية فإنها تحلّ محل الدولة وتضعف هيبتها.

وتشير التقارير إلى أن يد الأجهزة الأمنية اللبنانية “مشلولة” في الضاحية الجنوبية لبيروت ولا تستطيع دخولها إلا بالتنسيق المسبق مع “الحزب”. هذا يعني أن الدولة بحاجة لإذن ضمني من “حزب الله” للقيام بواجباتها الأمنية على جزء من أراضيها. كذلك، عند تنفيذ مداهمات أمنية أو توقيف مطلوبين في مناطق نفوذ “الحزب”، يجري عادةً تنسيق مسبق تفاديًا للاصطدام مع قوة “الحزب” المسلحة. هذا الوضع ينتقص من سلطة القانون، إذ يفلت كثيرون من الملاحقة أو تتم مباطأة الإجراءات القانونية بحقهم إذا كانوا يحتمون بمظلة “الحزب”.

كيانات أمنية غير شرعية في لبنان

ليس ظهور كيان أمني خارج الدولة بالأمر الجديد في تاريخ لبنان الحديث. فعلى امتداد الحرب اللبنانية (1975-1990) سيطرت ميليشيات متعددة على مناطق نفوذ خاصة بها، وشكّلت أجهزة أمنية موازية في تلك المناطق. بعد انتهاء الحرب، أُقرّ اتفاق الطائف (1989) الذي نصّ صراحة على حلّ جميع الميليشيات وتسليم أسلحتها إلى الدولة خلال ستة أشهر. وبالفعل، تم حلّ ميليشيات الحرب وسلمت أسلحتها، باستثناء “سلاح المقاومة” الذي احتفظ به “حزب الله” بذريعة استمرار الاحتلال الإسرائيلي.

لاحقًا عام 2004، صدر قرار مجلس الأمن 1559 مؤكدًا ضرورة حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها. كما دعا قرار مجلس الأمن 1701 (2006) إثر حرب تموز إلى بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها ونزع سلاح الجماعات المسلحة. هذه المحطات تؤكد إجماعًا وطنيًا ودوليًا منذ عقود على رفض أي سلاح خارج إطار الشرعية. تاريخيًا، دفعت التجارب المريرة لبنان إلى التأكيد في مقدمة دستوره على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك، ويمكن اعتبار وجود أي سلطة عسكرية موازية هو انتهاك لهذه القاعدة لأنه يخل بأسس الدولة الواحدة.

أضف إلى ذلك، تؤدي هيمنة “حزب الله” أمنيًا إلى تضارب واضح مع استقلالية القضاء والقوى الأمنية الرسمية. فعلى صعيد القضاء، ظهر ذلك جليًا في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري: وجّهت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان اتهامات إلى عناصر من “حزب الله”، لكن “الحزب” رفض تسليم المتهمين أو حتى الاعتراف بشرعية المحكمة. وصرّح الأمين العام السابق لـ “الحزب” السيد حسن نصرالله آنذاك، أن المتهمين “مفترى عليهم” ورفض أي تعاون، ما حال دون تنفيذ العدالة، إذ بقي المحكومون غيابيًا أحرارًا تحت حماية “الحزب”.

ويعكس هذا المثال كيف أن نفوذ “الحزب” يشكل عائقًا أمام يد القضاء عندما تتعارض الأحكام مع مصالحه. وليس الأمر مقتصرًا على المحكمة الدولية؛ فقد لوحظ أيضًا تدخل غير مباشر في التشكيلات القضائية الداخلية. فـ “الحزب” أعرب في 2009 عن اعتراضه على تشكيلات قضائية واعتبرها “مُسيّسة”، ما فهم على أنه ضغط لضمان تعيين قضاة لا يستهدفون بيئته. وفي السنوات الأخيرة، واجه التحقيق في انفجار مرفأ بيروت (2020) عراقيل كان وراءها قوى بينها “حزب الله”، حرصًا على وقف ملاحقة بعض حلفائه. كذلك على صعيد الأجهزة الأمنية، سُجّلت لـ “الحزب” تدخلات في التعيينات الحساسة.

أبرز مثال تاريخي هو أحداث 7 أيار 2008: حين قررت الحكومة آنذاك إقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت المشتبه بارتباطه بـ “الحزب”، تصاعد الأمر إلى مواجهات عسكرية اجتاح فيها “حزب الله” بيروت. وأوضح هذا الحادث الخطير أن “الحزب” على استعداد لاستعمال قوته المسلحة ضد الدولة للحفاظ على نفوذه الأمني داخل المؤسسات. كما أن منصب المدير العام للأمن العام” مثلاً” أصبح تقليديًا من حصة الشيعة المقربين من “الحزب”، وشهدنا تمديد ولاية اللواء عباس إبراهيم سابقًا نتيجة توافقات سياسية، كان “الحزب” جزءًا أساسيًا منها. وهكذا، فإن وجود جهاز أمني غير شرعي موازٍ يؤدي موضوعيًا إلى تسييس الأمن والقضاء وتقييد استقلاليتهما، حيث تصبح القرارات الحساسة رهينة لتوازنات القوة بدلاً من حكم القانون وحده.

المربعات الأمنية: مناطق خارج نطاق الدولة

نتيجة لنشاط اللجنة الأمنية لـ “حزب الله” ونفوذ “الحزب” العسكري، برزت في لبنان ظاهرة “المربعات الأمنية”. في الضاحية الجنوبية لبيروت، نشأ مربع أمني بمفهومه الواقعي: أحياء بكاملها مثل حارة حريك وبئر العبد والرويس وغيرها كانت تتمتع بحماية أمنية خاصة من “الحزب” مع وجود حواجز تفتيش وكاميرات مراقبة تابعة له. لعقود، مثّل هذا المربع “دويلة ضمن الدولة” يحكمها أمن “الحزب” الذاتي. وتشير التقارير إلى أن أي شخص “غريب” لا يمكنه دخول هذه المناطق إلا تحت أعين ومراقبة عناصر “الحزب”.

قوى الأمن الرسمية نادرًا ما تدخل هذه الأحياء إلا بتنسيق مسبق، ما جعلها ملاذًا للكثير من المطلوبين. وقد حوّل “الحزب” مناطق نفوذه عموماً – في الضاحية والجنوب والبقاع – إلى مربعات أمنية يمارس فيها حماية ذاتية معتمدًا على أجهزته الخاصة، بحيث يصعب على أجهزة الدولة أن تبسط سلطتها فيها. ونتيجة لذلك، تفاقمت في هذه المناطق حالات التفلت الأمني وظهرت “جزر أمنية” خارجة عن القانون. فمثلاً، شهدت الضاحية الجنوبية وبعلبك موجات من الجرائم (سرقات، مخدرات، اشتباكات عشائرية…) تفوق قدرة الشرطة العادية على معالجتها بسبب وجود السلاح المتفلت والحماية السياسية له. هذه المربعات شكّلت أيضًا ملاذًا لمطلوبين للعدالة يلجأون إليها للإفلات من الملاحقة.

فكثيرًا ما سمعنا عن مطلوبين بقضايا جنائية خطيرة يحتمون في الضاحية أو مناطق نفوذ “الحزب”، ويتعذّر على القوى الأمنية دخول تلك المناطق لاعتقالهم دون ترتيب مسبق. وبدل أن يسلّم “الحزب” هؤلاء للعدالة، غالبًا ما يتم تأمين الحماية لهم ضمنًا إلى أن يتم حل قضاياهم بتسويات أو وساطات.

حتى إن بطاقات “تسهيل المرور” التي قيل إن بعض الأجهزة كانت تصدرها لعناصر “الحزب” تُعدّ تجاوزًا فاضحًا، لأنه لا يحق قانونًا إعطاء تصاريح حمل سلاح إلا ضمن الأطر المحددة (كالجيش وقوى الأمن).

إذًا، هذا الواقع الشاذ يضع الدولة نفسها في حال تناقض كبير إن بقيت تغض الطرف عنه، لأن سكوتها يعني ضمنًا قبولها بازدواجية سيادية محظورة.

أمام كل ما سبق من معطيات، يصبح وجوب إلغاء اللجنة الأمنية لـ”حزب الله” وفك ارتباط أجهزة الدولة معها أمرًا بديهيًا لاستعادة السيادة والقانون. لقد آن الأوان لإقفال صفحة المظاهر المسلحة الخارجة عن القانون وفتح صفحة جديدة يصبح فيها الجيش والقوى الأمنية الرسمية وحدهما الضامن لأمن جميع اللبنانيين. فلا يجوز بعد اليوم أن تبقى الدولة رهينة توازنات قوة داخلية أو خطوط حمراء ترسمها قوة حزبية. المطلوب هو فك الارتباط نهائيًا بين مؤسسات الدولة وأي تشكيل أمني حزبي: أي وقف التنسيق غير الرسمي مع لجنة “حزب الله” الأمنية، وإخضاع مناطق نفوذ “الحزب” لسلطة الأمن الشرعي بالكامل.

فأي دولة هذه تكون فيها لجنة أمنية برتبة “ميليشيا”، وقرض حسن برتبة مصرف مركزي ومناطق مقفلة برتبة دويلة؟ وإذا كانت الدولة عاجزة عن استرداد معنى الدولة فكيف ستكون قادرة على نزع ترسانة الصواريخ والأسلحة؟

لقد دقت ساعة الدولة لأن التاريخ لا يرحم والسلام…

اخترنا لك