من #إسكوبار إلى مادورو : انتصارات “#حزب_الله” الانتخابية

بقلم مكرم رباح
@makramrabah

يعاني محور الممانعة بكل أطيافه من أزمات أخلاقية وسياسية عميقة، يتجلى أبرزها في قدرته المُذهلة على الكذب المُمَنهج حتى الثمالة. لقد باتت الإشاعات جزءًا من بنية خطابه اليومي، يُطلقها ويُصدقها، ومن ثم يُعيد إدراجها في سردية بطولية مثل “أشرف الناس”، في الوقت الذي يُخوّن فيه كل من يرى في مقاربته للأمور سقوطًا سياسيًا وأخلاقيًا فادحًا.

هذا الانفصام عن الواقع ليس وليد اللحظة، بل هو جزء مُتَجَذر في تكوين هذا المحور الذي حوّل الهزائم لانتصارات شفهية، والخسائر إلى نقاط رمزية في “معركة الوعي”؛ إنه تعبير شاع مؤخرًا في خطاب أبواقه الإعلامية، كنوع من التعويض النفسي أمام هذا الكَم من الانهيارات الميدانية والسياسية والاقتصادية التي يتعرض لها هذا المحور.

خلال الأسبوع المنصرم، خرج أحد المقربين لـ “حزب الله” عبر وسيلة إعلام عربية ليدافع عن فكرة مفادها أن “محور المقاومة” لم يخسر الحرب، بل خسر جولة بالنقاط، مضيفًا أن خير دليل على “النصر” المزعوم هو فوز المحور بالانتخابات في كولومبيا، والبرازيل وفنزويلا. هذا التصريح الخارج عن المنطق، شكّل مادة للسخرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ انهالت الردود لتجعل من الكلام مادةً هزلية بامتياز.

لكن، سواء كان هذا الكلام مجرد زلّة لسان، أم جزءًا من الـ”Talking Points” التي تُوزّع على المقربين عبر أجهزة بيجر أو عبر قنوات أكثر بدائية بهدف النشر للإعلام، فإنه يعرض نافذة واضحة عن العقلية السياسية التي تحكم إيران وأذرعها في المنطقة. إنها عقلية انطوائية متقوقعة تعيش حالات من الإنكار والتمنيات، وتبني استراتيجيتها على أوهام الأيديولوجيا، لا على وقائع الجغرافيا والسياسة.

الملفت هنا أن “حزب الله”، وبعض من بقي من “مناضلي الحرب الباردة”، ما زالوا يعتقدون أن هناك قوى عظمى، مثل روسيا والصين، أو دول مجموعة “البريكس”، ستدخل ساحة المواجهة في اللحظة الحاسمة لتدمر الهيمنة الأميركية. وفق هذا المنطق، فإن الأمر لا يحتاج إلا إلى “الصبر” و”الإيمان بالقضية”، بانتظار تدخل “الحليف الاستراتيجي”. إلا أن هذا الرهان يُخفي جهلًا مركبًا بالتحولات الدولية.

وعليه فإن الصين، على رأس هذه الدول، لا تكترث البتة لمغامرات إيران التوسعية. وبالنسبة لبكين، فإن الرخاء الاقتصادي لا ينتج عن عسكرة المنطقة، بل من خلال الاستقرار، والتبادل التجاري، وفتح الأسواق، وهي أمور تتناقض جوهريًا مع منطق الصراع الدائم الذي يتبناه “محور الممانعة”. أما روسيا، فهي غارقة في مستنقعاتها الخاصة، وتتعامل ببراغماتية باردة مع الملف الإيراني، كما ولا تضع مشروع “تحرير فلسطين” أو “توسيع نفوذ المقاومة” في قائمة أولوياتها.

أما بالنسبة إلى أميركا الجنوبية والتغني بـ “سيطرة ثقافة المقاومة” عليها، فالموضوع بحاجة إلى التدقيق والتشريح لا التهليل والتضليل.

في كولومبيا، التي يدّعي بوق “الحزب” أنها أصبحت في صفوف المحور، كانت سلطاتها قد صنفت “حزب الله” كمنظمة إرهابية عام 2020، بعد سلسلة من العمليات الإرهابية والأمنية التي قام بها “الحزب” على أراضيها، وتضمنت استهداف الجاليات اليهودية والمصالح الأميركية.

أما الرئيس الحالي غوستافو بيترو، فهو وإن نشأ ضمن ميليشيا ماركسية مسلحة، إلا أنه نبذ العنف منذ عام 1989، حين قرر هو ورفاقه الانخراط في العملية السياسية. هذا التحول تَكَرّس لاحقًا تزامنًا مع إبرام اتفاق السلام مع ميليشيا “فارك” في عام 2016، التي سلمت السلاح للدولة، وانضمت إلى الحياة السياسية، وهذا أمر يرفض “حزب الله” الاقتداء فيه. وبالتالي، إن اعتبار كولومبيا جزءًا من محور المقاومة لا يعدو كونه تلفيقًا أيديولوجيًا سخيفًا. أما مجرد أن يكون بيترو من خلفية يسارية فهذا لا يعني أنه بات من أنصار إيران أو حليفًا لـ “حزب الله”.

وفي البرازيل، الرئيس لولا دا سيلفا، المعروف بدعمه التاريخي للقضية الفلسطينية، لا يناصر “الحزب” ولا يتبنى سياساته. فالدولة البرازيلية نفسها فككت شبكات إرهابية ومالية تابعة لـ “حزب الله”، كانت تخطط لعمليات ضد أهداف مدنية، كما ألقت القبض على شبكات تهريب مخدرات من المغتربين اللبنانيين المرتبطين بـ “الحزب”. فهل مجرد تعاطف لولا مع الفلسطينيين يجعله عضوًا في “الحرس الثوري اللبناني”؟ بالطبع لا.

إن تصريحات لولا وبيترو المطالبة بوقف المجازر في غزة لا تجعل منهما عناصر في شبكات التهريب والقتل التي يديرها “حزب الله” في لبنان وسوريا ودول أخرى؛ والخلط بين المواقف الإنسانية والاصطفاف التنظيمي هو ضرب من التضليل السياسي الذي يعتمده محور الممانعة لتسويق شرعيته الزائفة.

أما في فنزويلا، حيث يفتخر محور الممانعة بـ “المحرر الأكبر” نيكولاس مادورو، فإن الواقع أكثر مرارة. لقد خسر الرجل الانتخابات بفارق شاسع، لكنه لا يزال متشبثًا بالسلطة، محتميًا بمرتزقة كوبيين يتقاضون رواتبهم من ثروات الشعب الفنزويلي المنهوبة. هذه ليست مقاومة، بل ديكتاتورية عارية يُرَوَّج لها باسم “السيادة” و”رفض الإمبريالية”.

الأهم في تصريحات محور الممانعة، هو تلك النزعة المطلقة التي تصل إلى حدود الهلوسة الجَماعية، إذ يسود رفض الاعتراف بالخسارة، ويُكسى الموت والدمار والدم بأثوابٍ دينية مخادعة.

في الحالتين، إن “الربح بالنقاط”، وَفق منطق محور الممانعة، هواية ثابتة، تُقاتل على نقاط وهمية، وتُسفك في سبيلها أنهار من الدماء، كما حدث في غزة، أو في جنوب لبنان، حيث تُدفَن الطموحات العقائدية تحت ركام البيوت وبين جثث الأطفال، وفي طيّات التاريخ.

في المحصلة، إن العقل السياسي لمحور الممانعة لم يعد يرى العالم إلا من زاوية واحدة: زاوية الإنكار والهروب إلى الأمام. إنه يفتقر إلى قراءة التغيرات الدولية، وإدراك حدود القوة، كما أنّه لا يميز بين الخطاب الثوري والواقع العملي. وعليه، فإن الحديث عن “نقاط” في معركة خاسرة أصلًا لا يعكس إلا عجزًا صارخًا عن الاعتراف بأن مشروع “الممانعة” بات ميتًا… ولو لم يُدفن بعد.

اخترنا لك