بقلم خلود وتار قاسم
في 17 تشرين الأول 2019، اشتعلت شرارة الغضب الشعبي في لبنان بسبب قرارٍ بفرض ضريبة على تطبيق «واتساب». لكن الحقيقة أن هذا القرار لم يكن إلا القشة التي قصمت ظهر الصبر، فخلفه تراكمٌ من الفساد، والبطالة، وانهيار الثقة بين المواطن والدولة. خرج الناس إلى الشوارع في مشهدٍ نادرٍ من الوحدة، يهتفون من أجل الكرامة والإصلاح، متجاوزين الطوائف والانتماءات، وكأن الوطن أخيرًا استيقظ على صوته الحقيقي.
إلا أن الحلم لم يدم طويلًا. فكما في كل محاولة نهوضٍ لبنانية، تسلّل المدسوسون، وتحوّلت الثورة من موجةٍ جامعة إلى ساحاتٍ متفرقة. دخلت الحسابات الشخصية والحزبية على الخط، وانقلب الشعار من «كلن يعني كلن» إلى تنافسٍ على من يمثل «الثورة» أكثر من غيره.
ولم يكن انهيار الحلم الشعبي وليد الصدفة، بل نتيجة تضافرٍ مدروس بين قوى في السلطة وأحزابٍ نافذة، أدركت منذ الأيام الأولى أن ما يجري أخطر تحركٍ شعبي منذ انتفاضة عام 1958. فبدأت محاولات الاختراق والتشويه، وتمّ تحويل الزخم الشعبي إلى فوضى مقصودة، لإجهاض الوعي الجديد الذي بدأ يتكوّن في الشارع. سُرّبت الشائعات، وفُتحت المعارك الجانبية، وتمّ تسييس الوجع الشعبي حتى انقسم الناس بين ساحاتٍ وألوان، بدل أن تبقى الراية واحدة: راية الوطن.
وبمكرٍ سياسيٍّ معروف، تعاونت أطرافٌ متناقضة في العلن ومتوافقة في الخفاء، لإعادة إنتاج النظام ذاته بوجوهٍ جديدة. هكذا خُنقت الثورة في مهدها، لا لأن الشعب لم يصرخ بما فيه الكفاية، بل لأن من في السلطة عرف جيدًا كيف يستخدم أدواته القديمة: الطائفية، الإعلام الموجّه، وشراء الولاءات، لإسكات أكثر الأصوات صدقًا.
لكن الحقيقة الأعمق أنّ العلّة ليست فقط في من دسّ نفسه بين الصفوف، بل في طبيعتنا نحن كمجتمع. نحن الذين لم نتعلّم بعد العمل الجماعي، ولا نثق ببعضنا بما يكفي لبناء مشروعٍ وطنيٍ مشترك. كلٌّ منا يريد أن يكون القائد، الصوت الأعلى، والرأي الأصح، فنتحوّل من ثائرين إلى متناحرين، ومن شركاء إلى خصوم.
ثورة 17 تشرين كانت محقة في توقيتها، صادقة في وجعها، لكنها سقطت لأننا لم نكن جاهزين بعد للتغيير الحقيقي. لم نفهم أن الثورة لا تُبنى بالغضب وحده، بل بالتنظيم والرؤية المشتركة.
ربما ما زال لبنان بحاجة إلى ثورة، ولكنها هذه المرة على ذواتنا أولًا — على أنانيتنا، على تشرذمنا، على هذا العجز المزمن عن العمل كفريق واحد.
حين نؤمن أن «نحن» أقوى من «أنا»، يمكن أن يبدأ التغيير الحقيقي، لا في الشوارع فقط، بل في داخل كل واحدٍ منّا.