معرض هيبت بلعة بوّاب في “غاليري آرت أون 56”

ملحمة الناس في أحوالهم وإيقاعاتهم الكولّاجيّة القصوى

بقلم عقل العويط

مهيبٌ ومتقنٌ ورصينٌ ما ينجزه بالاستناد إلى واقع أحوال العباد والبلاد، معرضُ الرسّامة هيبت بلعة بوّاب في “غاليري آرت أون 56″، الجميزة، ابتداءً من 13 كانون الثاني الجاري إلى 4 شباط المقبل. فالناس في حلّهم وترحالهم هم عناصر “الإلهام”، وهم عصب اللوحة ونخاعها الشوكيّ، وهم أيضًا قوامها وبنيتها وفضاؤها؛ ترتّب إيقاعاتِهم الفنّانةُ القديرةُ ترتيبًا كولّاجيًّا ملحميًّا يغتني بالمواد المختلطة وبتنوّع اللون وحيويّة الحركة.

لا تستخفّوا بالكولّاج. أقول هذا للفنّانين وللنقّاد وللذوّاقة وللمتلقّين العاديّين على السواء. هذا أكثر ما يتبادر إلى ذهني وأنا أرى إلى لوحات هذا المعرض، بانشغالاتها الكولّاجيّة الرؤيويّة جدًّا والذكيّة جدًّا والمرنة جدًّا، ممهورةً ببلاغة الحركة، وبحسن البناء والتوزيع، وفق هندساتٍ إيقاعيّةٍ ولونيّةٍ، إنْ دلّت على شيء فعلى مراسٍ محنّك ودأبٍ صبورٍ، وصولًا باللوحة إلى مبتغياتها التأليفيّة ودلالاتها المفتوحة على التأويل.

ناس المعرض هؤلاء، يأخذونني إلى لحظاتهم، أعمالهم وحالاتهم، فأصير مشتركًا معهم ومشاركًا إيّاهم لا في المشهد وتمظهراته المرئيّة فحسب بل في طيّاته ومضمراته. هم ناسنا “المحلّيّون” الذين “تستلهم” الرسّامةُ اجتهاداتِهم، جلوسًا أو حوارًا أو صمتًا أو مجيئًا أو رحيلًا أو إقامةً رهيبةً في الدوّامة. وها هي تنخرط في خضمّهم، وتختلط بهم، فتصير منهم وفيهم، مستجليةً نظراتهم ونفسيّاتهم وأنفاسهم ومعضلاتهم ومخاوفهم وشكوكهم وارتياباتهم وأحلامهم ونبضات أرواحهم المثقلة بالهواجس والهموم والتأمّلات.

وأراني أعثر في تأويلٍ من تأويلات المعرض، على ما ألمّ بناسه من امتحاناتٍ ومحنٍ رهيبة، أكان ذلك لعلّةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، من مثل انهيار مقوّمات الحياة انهيارًا دراميًّا، اجتماعًا وعيشًا واقتصادًا وانتظام إيقاع، وفجيعة تفجير المرفأ والمدينة، وهول الكوفيد، وارتدادات ذلك كلّه ضياعًا وارتباكًا ورحيلًا وهجرةً وتهجيرًا ودمارًا نفسيًّا وعطبًا روحيًّا، وما إلى ذلك ممّا آلت إليه سبل العيش اليوميّ ومناحيه.

هذا كلّه تبنيه هيبت بلعة بوّاب لبنةً لبنةً، وتلصقه لصقًا مهندسًا بتكويناته وجزئيّاته، مضفيةً عليه من التآليف والأشكال ما يتلاءم مع مستلزمات الأسلبة، لتعود عاكفةً على رسمه في حيثيّاته المشهديّة بما أوتيت من انسجامات الألوان ومراتبها وتدرّجاتها، وفق رؤيةٍ متكاملةٍ تكاد تقول: ها أنا قد أنجزت المهمّة. فاقتضى التنويه.

وإذا كان المعرض في غالبية الأعمال يأخذ بتقنية الكولّاج والموادّ المختلطة، محقّقًا لحظةً مشهديّةً ذات بعدٍ ملحميّ، فإنّ ما تقترحه الرسّامة من منجزٍ (رمزيّ) بالرسم الزيتيّ لا بدّ من أنْ يومئ إلى غنى الاحتمالات التشكيليّة التي قد تنجم – ولا بدّ – عن ولوج هذا الأفق باختباراته الكثيفة.

اخترنا لك