بنك “آينده” : عندما يُشهر الفساد المُمَنهج إفلاسه

بقلم مهدي عقبائي

لم يكن انهيار بنك “آينده” (المستقبل)، أحد أكبر البنوك الخاصة في إيران، مجرد حدث اقتصادي عابر يمكن إدراجه في سياق الأزمات المالية التقليدية. بل كان بمثابة إعلان إفلاس مدوٍّ لمنظومة الفساد التي تشكل العمود الفقري لنظام الملالي. لقد انهار “المستقبل” الذي وعد به النظام ليكشف عن حاضره المتهالك وماضيه القائم على النهب المنظم، مؤكداً حقيقة لطالما شددت عليها المقاومة الإيرانية: الفساد في ظل هذا النظام ليس استثناءً أو انحرافاً، بل هو القاعدة والمنهج.

في أواخر أكتوبر 2025، أُجبر البنك المركزي الإيراني على الاعتراف بالكارثة، معلناً حل بنك “آينده” وإلغاء ترخيصه بعد سنوات من التحذيرات والتغاضي المتعمد. الأرقام الرسمية التي تسربت عبر وسائل الإعلام الحكومية نفسها، والتي لا تمثل سوى غيض من فيض، ترسم صورة قاتمة لحجم الكارثة. فقد بلغت الخسائر المتراكمة للبنك ما يزيد على 5 مليارات دولار، وديونه للبنك المركزي قرابة 3 مليارات دولار، فيما هوى معدل كفاية رأس المال إلى نسبة سلبية كارثية وصلت إلى 600% تحت الصفر، في وضع يتجاوز كل معايير الإفلاس المتعارف عليها دولياً. ولتغطية هذا الانهيار، تم الإعلان عن نقل أصوله وودائع المودعين إلى بنك “ملي” المملوك للدولة، في محاولة يائسة لاحتواء الغضب الشعبي ومنع انهيار الثقة الكامل في القطاع المصرفي المترنح.

لكن قصة بنك “آينده” ليست مجرد سوء إدارة أو قرارات استثمارية خاطئة. إنها قصة نهب ممنهج تم تحت رعاية وحماية “مؤسسات القوة”، كما وصفتها صحيفة “جمهوري إسلامي” الحكومية. تأسس البنك في الأساس من اندماج مؤسسات مالية كان بعضها تابعاً للحرس الثوري، وسرعان ما تحول إلى أداة لتمويل المشاريع الضخمة المرتبطة بأقطاب النظام. كان أبرز هذه المشاريع مركز “إيران مول” التجاري الضخم، الذي ابتلع جزءاً هائلاً من أموال المودعين. وكشفت التقارير أن ما يقرب من 90% من قروض البنك وتسهيلاته كانت تُمنح لأطراف مرتبطة بمؤسسيه ومُلاكه، وهي قروض لم تكن هناك أي نية لسدادها. لقد كان البنك يعمل كآلة ضخمة لشفط مدخرات المواطنين وتحويلها إلى جيوب شبكة صغيرة من المتنفذين، في عملية احتيال واسعة النطاق تشبه مخطط “بونزي” الشهير.

إن تداعيات هذا الانهيار تتجاوز الخسائر المالية المباشرة. فبحسب اعترافات وسائل الإعلام الحكومية، كان بنك “آينده” وحده مسؤولاً عن توليد ما يقارب 7% من التضخم السنوي في البلاد. هذا الرقم المذهل يعني أن كل أسرة إيرانية أصبحت أفقر بنسبة 7% بسبب أنشطة هذا البنك الفاسد وحده. لقد كان النظام يطبع النقود عبر السحب على المكشوف من البنك المركزي لتمويل عمليات النهب هذه، وسدد فاتورة هذا الفساد المواطن الإيراني العادي من خلال التآكل الوحشي لقيمة مدخراته وقوته الشرائية. إنها سرقة صامتة وواسعة النطاق من جيوب الشعب.

والأخطر من ذلك أن بنك “آينده” ليس حالة معزولة. لقد حذر البنك المركزي نفسه من أن هناك ما لا يقل عن ثمانية بنوك أخرى تواجه خطر التصفية، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن 18 بنكاً من أصل 29 بنكاً عاملاً في البلاد تعاني من نقص حاد في رأس المال ولا تفي بالمعايير المطلوبة. هذا يعني أن القطاع المصرفي الإيراني برمته يقف على حافة الهاوية، وبات أشبه بقنبلة موقوتة تهدد بنسف ما تبقى من الاقتصاد المنهار أصلاً تحت وطأة العقوبات الدولية وسوء الإدارة والفساد المستشري.

يأتي هذا الانهيار ليفضح بشكل قاطع زيف ادعاءات المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي كرر مراراً وتكراراً أنه “لا يوجد فساد ممنهج” في النظام. إن قضية بنك “آينده”، بكل تفاصيلها المروعة، تثبت أن الفساد ليس مجرد خلل في النظام، بل هو النظام نفسه. إنه جزء لا يتجزأ من بنية السلطة التي تستخدم المؤسسات الاقتصادية والمالية كأدوات للنهب والبقاء في السلطة، غير آبهة بمعاناة الملايين من أبناء الشعب الذين يرزحون تحت خط الفقر.

إن سقوط بنك “المستقبل” هو في حقيقة الأمر سقوط لقناع طالما حاول النظام أن يخفي به وجهه الحقيقي. إنه يعكس حالة التعفن والاهتراء التي وصلت إليها مؤسسات الدولة، ويؤذن بأن المستقبل الذي يبنيه هذا النظام ليس سوى المزيد من الفقر واليأس والانهيار. وكما هو الحال مع الأزمات الكبرى التي تعصف بإيران، فإن الحل لن يأتي من داخل هذه المنظومة الفاسدة، بل من خلال تغيير جذري يقتلع هذا النظام من جذوره ويعيد ثروات إيران المنهوبة إلى أصحابها الحقيقيين، الشعب الإيراني.

اخترنا لك
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com