بقلم د. ميشال الشّمّاعي – خاص بوابة بيروت
@DrMichelCHAMMAI
منذ أكثر من ثلاثة عقود، يتربّع نبيه بري على رأس مجلس النواب اللبناني، وكأنّ المقعد بات إرثًا شخصيًّا لا موقعًا دستوريًّا يتداول عليه الممثلون المنتخبون. تحوّل الرجل الذي دخل الحياة السياسية في زمن الحرب إلى رمزٍ من رموز المنظومة التي أمسكت بخيوط الدولة بعد اتفاق الطائف، فصار المجلس النيابي في ظلّه مؤسسة مشلولة الإرادة، تدور في فلك رئيسها أكثر ممّا تعبّر عن إرادة الشعب الذي يفترض أنّها تمثّله.
طوال سنوات حكمه البرلماني، تحوّل البرلمان من منبرٍ للنقاش والتشريع والمحاسبة إلى أداةٍ لضبط الإيقاع السياسي بما يخدم مصالح الثنائي الشيعي ومن خلفه شبكة القوى التقليدية التي تستمدّ من بقاء بري ضمانة لاستمرار امتيازاتها.
منذ عام 1992 وحتى اليوم، تغيّر لبنان كلّه: تبدّلت وجوه، انهارت عملة، وهاجر نصف الشعب، لكنّ نبيه بري بقي هو الثابت الوحيد في معادلة متحرّكة. في كل استحقاق، تُجَدَّد له الولاية بصفقة جديدة أو تسوية تُعيد إنتاج النظام نفسه، رغم انفجار الغضب الشعبي في الشوارع عام 2019، ورغم كل الأصوات التي طالبت بإصلاح عميق لبنية السلطة.
ومع كل دورة نيابية جديدة، يتكرّر المشهد ذاته: تصويت شكلي، وولاء مُعلن، وصمت رسمي عن واقعٍ لم يعد يُحتمل. باستثناء قلة قليلة كانت كتلك الخميرة التي رفعت العجين حتى بات يتذوق طعم الحرية في تصويت أكثري هزيل بعد انتخابات ٢٠٢٢ ليبقى بري سجّان المجلس. ومن خلف أكمة ساحة النجمة بقي نبيه بري حاكم لبنان . فهل كتب على اللبنانيين أن يظلّوا أسرى هذا النمط الأبدي من الزعامة؟ متى، وكيف، ومن يستطيع أخيرًا كسر حلقة التسلّط التي جعلت من نبيه بري الحاكم الفعلي لمجلس النواب منذ أكثر من ثلاثين عامًا؟
بين الوصاية السورية وقرنة شهوان – كيف ثبّت بري سلطته؟
في مرحلة الوصاية السورية التي امتدت من أوائل التسعينيّات حتى عام 2005، عرف نبيه بري كيف يتموضع بذكاء داخل منظومة الحكم التي رسم حزب البعث معالمها في لبنان. فقد شكّل بالنسبة إلى حافظ الأسد شريكًا موثوقًا يضمن تمرير السياسات التي تحفظ نفوذه في المؤسسات اللبنانية، مقابل منحه حرية شبه مطلقة في إدارة المجلس النيابي. وبفضل هذا التوازن القائم على الولاء المتبادل، تحوّل البرلمان إلى أداةٍ بيد بري، تُفتح جلساته حين يشاء وتُجمّد استحقاقاته متى اقتضت الحاجة.
لكنّ أصواتًا معارضة بدأت تتبلور في مطلع الألفية، خصوصًا من خلال “لقاء قرنة شهوان” الذي جمع شخصيات سيادية ووطنية من مختلف الطوائف، بينهم نسيب لحود، بطرس حرب، وفارس سعيد. كان هؤلاء يرون في بري تجسيدًا للهيمنة السورية المقنّعة بالمؤسسات، إذ استخدم النصوص الدستورية بمرونة متعمدة لعرقلة أي توازن حقيقي داخل السلطة. نسيب لحود، بدرايته الدستورية، واجه تسلّط بري بالحجّة والمنطق داخل البرلمان وخارجه، فكان من القلائل الذين تجرّأوا على كشف مخالفاته للنظام الداخلي.
القوات اللبنانية بين المواجهة الفعلية ومزايدات العونيين
منذ عودة الحياة السياسية بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005، شكّل نبيه بري عقبة أمام أي مشروع إصلاحي حقيقي، فكان يعطل الجلسات حين يشعر بأن موازين القوى لا تخدمه. في تلك المرحلة، خاضت “القوات اللبنانية” مواجهتها معه عبر المؤسسات لا عبر الشعارات، فكانت من بين القلائل الذين طالبوا علنًا بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات ووقف احتكار بري لجدول أعمال المجلس. نواب القوات رفضوا مرارًا تشريع الضرورة الذي فرضه، وامتنعوا عن حضور جلسات تُعقد خارج الأطر الدستورية.
في المقابل، كان ميشال عون وجبران باسيل يشنّان حملات إعلامية عنيفة ضد بري، يصفانه فيها بـ“رمز الفساد والوصاية”، و ” البلطجي” ؛ لكنّ المفارقة كانت في كل مرة تعاد فيها الانتخابات الداخلية للمجلس، إذ يصوّت نواب “التيار الوطني الحر” لصالحه أو يمتنعون عن معارضته، حفاظًا على تسوياتهم مع “الثنائي الشيعي”. هذا التناقض كشف جوهر الأداء السياسي العوني القائم على المزايدة الخطابية وتبادل المصالح، بينما بقيت القوات اللبنانية الطرف الوحيد الذي واجهه عمليًا في البرلمان عبر مواقف واضحة. فالمواجهة لم تكن في الشعارات، بل في السلوك السياسي والنيابي الذي رفض الخضوع لمنطق “الرئيس الأبدي”.
جعجع وكسر الحلقة، من قانون الانتخاب إلى إلغاء المادة 112
في السنوات الأخيرة، تصاعدت المواجهة بين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ونبيه بري إلى مستوى غير مسبوق. فجعجع، الذي يدرك أن مفتاح التغيير يبدأ من المجلس النيابي، اختار أن يواجه نهج بري بالعمل المؤسساتي المنهجي لا بالشخصنة. بلغت ذروة هذا الصدام في جلسات مناقشة قانون الانتخابات النيابية، حين أصرّ بري على تمرير صيغ تخدم التحالف القائم بينه وبين “حزب الله”، ولعلّ أبرزها ما تجلّى في تقسيم الدّوائر الانتخابيّة، حيث جعل من الزهراني وصور دائرة انتخابية واحدة “دائرة الجنوب الثانية” والتي تتمتّع بأعلى حاصل انتخابي، ما يجعل مهمّة إسقاط برّي شبه مستحيلة.
ليبقى سجّان المجلس إلى الأبد. كما انّه رفض أن يكون المسيحيّون في هذه الدائرة مع منطقة جزين، ولا سيّما أنّ هذه القرى تاريخيًّا كانت تعرف بقرى ساحل جزّين. ونجح بتغيير اسمها إلى قرى صيدا. وجعل من جزين وصيدا دائرة انتخابيّة واحدة، ليبقى محتفظًا بالمقعد الكاثوليكي في منطقة الزهراني. وعندما تمّ مساءلته هدّد بالعودة إلى قانون السّتين. هذا فضلًا عن الدائرة 16 التي كان يطمح باسيل بالسيطرة على نوّابها الستّ بعد الحملات الاغترابية التي قام بها يوم كان وزيرًا للخارجيّة في بلاط الولي الفقيه. لذلك، قادت القوات اللبنانية حملة معاكسة أجهضت محاولاته، فكان تعطيل انعقاد الجلسات نتيجة مباشرة لهذا الرفض.
وتمثّلت المحطة الأبرز في معركة إلغاء المادة 112 من قانون الانتخابات التي تثبّت مشروع باسيل الاغترابي الساقط مسبقًا. تحرّكت “القوات” بقيادة جعجع، الثائر المتمرّد على السجّان، فجمعت التواقيع، وضغطت سياسيًا وإعلاميًا. فرفض بري وضع هذا البند على جدول الأعمال
فما كان من القوات التي قادت المعارضة اللبنانية إلا أن انسحبت من جلسة بري وعطلتها؛ مسجلا بذلك سمير جعجع تقدمًا سياسيًّا مؤسساتيًّا على أداء بري الشخصاني التسلطي.
وهكذا، للمرة الأولى منذ عقود، اضطر رئيس المجلس إلى التراجع عن جزء من نفوذه التشريعي. مثّل هذا الحدث لحظة مفصلية، أثبت فيها جعجع والمعارضة الأدائيّة معه أنّ مواجهة التسلّط لا تكون بالصراخ ولا بالاستعراض، بل بالفعل الدستوري المنظّم الذي يحدّ من سلطة الفرد ويعيد التوازن إلى المؤسسات.
انتفاضة جعجع النيابيّة تثمر
اليوم، ومع تصاعد الأصوات الداعية إلى تصويب الحياة الدستورية في لبنان، يبدو أنّ مرحلة تسلّط نبيه بري على مجلس النواب تقترب من نهايتها. فالمناخ السياسي تغيّر، والغطاء الذي حماه لعقود بدأ يتآكل. المواقف الأخيرة الصادرة عن رئيس الحكومة نواف سلام، والمتمسّكة بوجوب احترام المهل الدستورية وإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، تشكّل تحوّلًا جوهريًا في المقاربة الرسمية لموقع السلطة التشريعية. سلام، برؤيته القانونية والإصلاحية، يعبّر عن رفضٍ واضح لاستمرار أي شكل من أشكال “الاحتكار البرلماني”، واضعًا حدًّا لمنطق التعطيل الذي استخدمه بري كسلاحٍ دائم للتحكّم بالمسار السياسي.
في موازاة ذلك، تأتي مواقف بكركي لتمنح هذا المسار بُعدًا وطنيًّا وأخلاقيًّا. فالبطريركية المارونية، التي طالما نادت بقيام دولة المؤسسات، أكّدت أن لا خلاص للبنان من أزماته المتراكمة إلا بعودة الحياة النيابية إلى دورها الطبيعي في التشريع والمحاسبة. دعم بكركي للأداء المؤسساتي ليس موقفًا رمزيًا فحسب، بل إعلان واضح بأنّ زمن الهيمنة الفردية على المؤسسات الدستورية قد ولى، وأنّ الدولة لا يمكن أن تنهض ما دام قرارها محتجزًا في قبضة شخصٍ واحد.
ذلك كلّه، معطوف على ترجمة عمليّة لخطاب القسم الذي تعهّد به فخامة الرئيس في جلسة انتخابه في 9 كانون الثاني 2025، وهذه قناعة وطنيّة تبلورت مع نهج جديد رسم معالمه الثائر المتمرّد مع معارضة لبنانية وطنية كيانيّة عامليّة باتت تنبض في قلب الجنوب الثانية لتطال لبنان كلّه مبشرّة بفجر جديد من الحرّيّة.
إنّ ما يمنع قيام الدولة الحديثة في لبنان ليس الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل التسلّط الداخلي الذي مثّله نبيه بري طيلة عقود، حين صادر سلطة البرلمان وحال دون بناء مؤسسات حقيقية. فهل تكون انتخابات أيار 2026، يا تُرى، لحظة سقوط استبداد بري وبداية استعادة مأسسة المجلس النيابي، أم أنّ دورة الهيمنة ستجد لنفسها وجوهًا جديدة بأسماء مختلفة؟