خياران أميركيان أمام العرب أحلاهما مر : التطبيع مع “ إسرائيل” أو… الجوع !

يقلم واصف عواضة

كانت لافتة هذا الأسبوع زيارة وزير الخارجية الإسرائيلية إيلي كوهين إلى الخرطوم، وإعلانه عن تقديم تل أبيب مسودة اتفاق سلام مع السودان سيوقع خلال هذا العام، وذلك بعد لقائه رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان يوم الخميس المنصرم.

ونقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن مسؤول إٍسرائيلي وصفته بالكبير أن السودان يستعد للتوقيع على اتفاق تطبيع للعلاقات مع تل أبيب. وأضاف المصدر للصحيفة أنّ الاتصالات الجارية بين تل أبيب والخرطوم – بمساعدة أميركية – حققت تقدما ملموسا بين الجانبين يبشر بقرب التوقيع على ما تعرف باتفاقات أبراهام.

والواقع أن السؤال المحير في هذا الموضوع هو ما الذي يدفع السودان لإقامة علاقات مع إسرائيل ،وهو ليس على خط تماس مع فلسطين، ولم يشارك في حروب العرب مع الكيان الصهيوني أو يتعرض لأضرار عانت منها دول المواجهة، عنيت بها مصر وسوريا ولبنان والأردن، شأنه شأن المغرب والإمارات والبحرين وقطر على سبيل المثال.

لعل الأمور لا تحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق. فالحديث عن “وساطة أميركية” في هذا المجال لا يفي هذا التعبير حقه ولا حقيقته. فالولايات المتحدة ليست جمعية خيرية في السياسة، والأحرى القول إنها “ضغوط أميركية” تفرضها واشنطن على الدول العربية، لا سيما منها التي تعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية خانقة، طارحة أمامها خيارين أحلاهما مر : التطبيع أو الجوع.

لقد أدركت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني منذ زمن أن لازمة “أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل” ليست بالأمر اليسير، وأن الحروب الإسرائيلية ضد العرب لن تحقق هذا المبتغى ولن تؤمن استقرارا للدولة العبرية، وأن الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية ليس مؤبدا بفعل المقاومة الشعبية وعناد بعض الأنظمة العربية، وقد كان النموذج اللبناني واضحا في هذا المجال. وعليه لا بد من إحاطة هذا الكيان بدول مستسلمة قابلة مقرة بوجوده كأمر واقع من خلال تطبيع العلاقات معه.

نجحت هذه الخطة بداية مع مصر والأردن ثم مع الفلسطينيين أنفسهم من خلال اتفاق أوسلو. عاندت سوريا ولبنان وغزة على الرغم من محادثات السلام التي جرت في مدريد وغيرها في بداية التسعينات من القرن الماضي، ولكن من دون جدوى. رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد التنازل عن متر واحد من الأرض السورية في الجولان على حدود بحيرة طبريا. والواقع أن الرجل كان يفضل أن يموت ألف مرة على أن يرى العلم الإسرائيلي مرفرفا في دمشق، وهو ما ذكرته في كتابي بعنوان “أميركا والآخرون ” الصادر في التسعينات. بعد رحيل الأسد الأب حاولت الولايات المتحدة جهدها مع خلفه الأسد الإبن، ولكن من دون جدوى، فكان ما كان في سوريا في سياق موجة “الربيع العربي” والتي لم يعد خافيا على أحد أن للأميركيين اليد الطولى في ما أصاب سوريا.

حاولت الإدارة الأميركية مع لبنان، فكان الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978، ثم الاجتياح الثاني عام 1982 وتوقيع إتفاق 17 أيار الذي لم يكتب له النجاح، وكانت المقاومة التي حررت الأرض من دون أي تنازلات. ثم كانت حرب تموز 2006 التي لم تهزم لبنان ومقاومته.

وقاومت غزة بشراسة حتى أجبرت العدو على الانسحاب صاغرا.

أدركت واشنطن أكثر فأكثر أن التطويع عسكريا لم يعد ناجعا، فانتقلت إلى خطة الحصار والتجويع مستغلة الظروف الاقتصادية الصعبة التي فرضتها الحروب على لبنان وسوريا بالذات، فضلا عن بعض السياسات الداخلية الفاشلة في البلدين اللذين يعانيان اليوم أوضاعا إجتماعية خانقة نتيجة هذا الحصار وسياسة التجويع. باتت سوريا غير قادرة حتى على الرد على الغارات الإسرائيلية المتلاحقة، وباتت المقاومة في لبنان تحت ضغط الظروف الاجتماعية والإقتصادية تحسب ألف حساب للحرب، وإن كانت تلجم الإسرائيليين عن إعتداءاتهم التقليدية على لبنان.

وعود على بدء،

لم يكن السودان بعيدا عن هذه السياسة الأميركية. فمنذ الإطاحة بالنظام السابق بقيادة عمر البشير، دخلت واشنطن على خط السودان وراحت تمارس عليه سياسة التطويع وفق سياسة التطبيع أو التجويع، وها هي اليوم تقترب من قطف ثمارها، على الرغم من المعارضة الشعبية والسياسية لهذا المنحى.

ولكن رب سائل : إذا كان مبررا للسودان وأمثاله من الدول العربية الفقيرة أن تنصاع للضغوط الأميركية، فما الذي يدفع دولا غنية و”مرتاحة” كالإمارات والبحرين والمغرب وغيرها إلى التطبيع والخضوع، وهي تعرف سلفا أن الواقع الجديد لا يخدمها على المدى البعيد، بل يخدم الكيان الصهيوني؟

الجواب بسيط : إن من يملك يخاف على ملكه أكثر ممن لا يملك. فالأول يخسر الكثير، والثاني لا يخشى على القليل.

في الخلاصة،

لا مبرر للسودان ولا لغيره في إقامة علاقات مع العدو الإسرائيلي، فعندما يصبح التطبيع مع الكيان الصهيوني وجهة نظر، لا قضية إحتلال واغتصاب لفلسطين، تختلط الأمور وتسقط المعايير ويصير التضامن العربي من أجل فلسطين شعارا فارغا من أي مضمون.ولكن يبقى الرهان على شعب السودان الذي يعتبر قضية فلسطين وشعبها قضية مركزية مقدسة.

اخترنا لك