سوق خضار بيروت ملتقى العاصمة بالريف وإنتاجه

علاقات تتجاوز البيـع والشراء لتشبيك المجتمع اللبناني : الجزء الثاني والأخير

بقلم جمال حلواني

عرضنا في الحلقة الاولى لما سبق وتعرض له سوق الخضار من محن آخرها كان انفجار 4 آب وقبلها دماره خلال الحرب الأهلية وما فعلته سوليدير به من تدمير منهجي لإخلائه لصالح شركات ومؤسسات كبرى على حساب أهله وناسه. وفي الحلقة الأخيرة هذه نعرض لأهمية السوق بالعلاقة مع باقي الاسواق التي استقرت في البلد أو الوسط التجاري، وكانت مركز تفاعل وتبادل وعلاقات.

محيط السوق

من سوق الخضار تتفرع حركة الاسواق في البلد، من سوق الفرنج الكائن فى منطقه باب ادريس، المختص باصنافه الفاخرة من الخضار والفاكهة، ومن اصحابه آل العيتاني وشاتيلا. سُمّي سوق الفرنج لأن اغلب زبائنه هم من الاوروبين المقيمين في بيروت. إضافة الى محلات الحلاواني لبيع الفاكهة والخضار المستوردة التي تقع بجانب عصير الزين، وقد تحولت ما بعد الحرب الى “سوبر ماركت غوديز ـ فردان”، وامتداداً إلى الاسواق الشعبية من سوق النورية الذى يرتاده زبائن ذوي موقع اجتماعي وسطي يتبضعون منه، وهو متواصل مع سوق اللحم، ويبعد امتاراً قليلة عن سوق السمك ودرج خان البيض المقابل لمبنى العازارية، والمبنى الاثري لمسرح وسينما التياترو الكبير، الذي كان وما يزال مفخرة هندسية رائعة. وللعلم فسقف المسرح متحرك يفتح صيفاً ويغلق شتاءً، وأيضاً يتفرع منه سوق ابو النصر(سوق العطارين) ومحلاته المشهورة باسم دبوس (آل منيمنه)، وعلى اطرافه بن عازار يقابله بن السيباسي، وفوقهم بنفس المبنى مسرح فاروق، يلاصقه مبنى سينما الزهراء، ويطل على سوق الاحذية المسمى سوق الارمن، المتخصص بصناعة الاحذية اللبنانية بايدي ارمنية محترفة وماهرة.

سوق الذهب والصاغة الذي يمتد الى دار الاوبرا، يلتف من درج خان البيض بمتفرعاته الى سوق الخياطين، وفيه كل ما تحتاجه من شراشف وبياضات حسب تسمية الاهل في تلك الفترة. وهذا السوق ملاصق لكنسية مار جرجس المارونية مقابل بناية العازارية، وتصل الى محل جلول لبيع الكازوز مقابل اوتيل اميركا، ولا ننسى المسرح الوطني، مسرح شوشو في الجهة المقابلة وصرخة صاحبه “آخ يا بلدنا”، وعصير الزين. وعلى طرف الشارع ملهى الباريزيانا، وخلفهم سينما امبير وسينما متروبول وسينما ديانا. وفي منطقة الجميزة مقهى الشرق، وكذلك مقهى اللاروندا في ساحة البرج. ورواد المقهيين كانا من النخب الاجتماعية من البرجوازية اللبنانية. أما فلافل فريحة قرب سينما المتروبول فمن أشهر المقاصد الشعبية في تلك الايام لرواد دور السينما عندما يشعرون بالجوع.

ولا ننسى أن نعرّج على شارع سوريا حيث المكتبات التي تضع في واجهتها أحدث الكتب المترجمة والمؤلفة بالعربية. وإلى يساره مبنى المركزية، حيث العديد من مكاتب الجرائد والنقابات العمالية. وكان هذا الشارع بما فيه مقصد الصحافيين والشعراء والادباء نظراً لقربه من مقار الصحف ومن المقاهي المشهورة، ودور السينما والمسارح حيث تقام المهرجانات الفنية والشعرية لكبار المطربين والشعراء، وتنعقد فيه المداولات السياسية.

وتقصد سوق الكتب المستعملة الكائن في ساحة الدباس، ونافورة الماء في وسطه قرب شجرة معمرة. وتضم الساحة محلات تجارية ودور سينما منها: سينما روكسي وسينما دنيا وسينما البيكال التي تخصصت بالافلام الهندية حيث كان معجبوها من الطبقات الشعبية كثيرون.

لم يكن السوق للخضار فقط، إنما تتداخل حوله المحلات والبسطات من حدادين، حدادة عربية، لتلبية حاجة السوق من أعيرة الميزان، وعمل فتاحات حديد وشق فى رأسها تستعمل لنزع المسامير من صنايق الخشب المليئة فاكهة وخضار. فيومها لم تكن صناديق البلاستيك معروفة. وكانت تستعمل كأداة قتال بدل السكاكين في معارك “زعران” السوق الذين هم من مختلف الجنسيات والمناطق، وآنذاك كانت السكين التي تسمى “سكينة الستة طقات” ممنوعة، ويسجن حاملها حسب القانون في حال القبض عليه من رجال الشرطة.علماً أن حملها شرعياً يتطلب الحصول على رخصة لمن يطلبها كالرُعاة والنواطير ومن شابههم.

وتنفرد بسطات بيع الدجاج غير المذبوح بريشه الابيض والبلدي الملون، كما تجاورهم بسطات بائعي السمك الطازج والمثلج، الذي عادة ما يكون باعته قد صبغوا خياشيم المعروض منه باللون الاحمر لتبدو طازجة. تدخل إلى محل الالبان والاجبان الممتلىء باصناف كثيرة من الاجبان البيضاء والصفراء الفرنسيه ذات العلب الخشبية الانيقة، وغيرها من مستوردات ومنتجة محلياً: جبن بلدي، وقشقوان بقري وقشقوان غنم ماركة اطلس الفاخرة. اشهر بائعي الالبان والاجبان حينها كانت محلات ادريس، وأصحابه تمتعوا بخبرة واسعة فى هذا المجال. وانتقلوا من الاسواق وافتتحوا سوبر ماركت عصري قرب مستشفى الجامعة الاميركية، وهو مقصد الفئات والطبقات الاجتماعية المقيمة في المنطقة من مختلف الجنسيات. وتحتل محلات بيع الحلويات جزءً من السوق: حلويات شعبية عربية كالمعمول المد والعوامات والمشبك والمعكرون والشعيبيات. مع وجود عدد من مصانع انتاج السمن الحيواني. وخلال التصنيع يمتلىء السوق برائحة الدهن وبقايا الشحوم التي تستعمل فى انتاج السمنة، فتغطي سماء السوق طيلة فترة بعد الظهر.

كما حال الاسواق الشعبية تختلط المحلات بتحركات الباعة المتجولين: باعة صحف تضع عناوين مثيرة لجذب القراء حتى لو كانت مفبركة، وصحف للصباح وأخرى مسائية و.. جرايد جرايد.. بعض الباعة يحمل تفاحاً مغطى بحلو لونه أحمر، فيما غالبية باعة الأكياس اولاد صغار معظمهم اكراد، يحملون على أحد أكتافهم خشبة مربوطة بقشاط جلدي عليه اكياس ورق كبيرة مأخوذة من ورق أكياس الترابة السمراء بعد تنظيفها، و ينادون: كيس.. كيس .. ويأتيه الجواب: ( تعا يا كيس) لمن يحتاجه. وكان يبيعك الكيس بفرنك، أي خمسة قروش.

اما العتّال فهو الشخص الذي يحمل لك مشترياتك نحو مواقف النقل “السرفيس” أو إلى المنزل مهما بعدت المسافة، وينقلها سيراً على الاقدام، وإلى أي منطقة ببيروت عبر سلة من القصب مشدودة برباط إلى جبينه، يحملها على ظهره. بينما هناك عتال اخر يعمل داخل السوق ويحمل صناديق الخضار لايصالها إلى المحلات في البلد.

وايضاً هناك اصناف اخرى من الناس يعتاشون على عملهم اليومي في السوق والاسواق القريبة مثل بائعي اليانصيب والقهوة او سندويشات سمك (البلميدة ذات اللحم الاحمر)، وعرانيس الذرة والحلويات ومناقيش الزعتر فقط. فحينها لم تكن معروفة مناقيش الجبنة والكشك وما يشابهها من معجنات. والكعك “قليط وعصرونية يا كعك”. كما كان هناك بائع الكوسا المحشو المتجول الذي ينادي (كوسا بلبه بتاكل ما بتعيدها). وتنتشر محال مطاعم الطبخ و سندويشات المشاوي والفول والحمص في كل أحياء وأسواق الوسط. أما الحلاقون والسنكرية ومصلحو بوابير الكاز ومجلخو السكاكين ومبيضو الطناجر وباعة المسابح فما اكثرهم، وتلتقيهم كيفما تجولت. ثم هناك لاعب الكشاتبين ولاعب الثلاثة ورقات، الذين يفلشون بضاعتهم على الرصيف، لإيهامك بسهولة الربح وتحصيل ليرات قليلة، لكن ما إن يأتيهم الإنذار من زميلهم المراقب باقتراب دورية الشرطة، حتى يحملون عدتهم من أوراق وكشاتبين وكرات صغيرة ويركضون بعيداً.

واليد العاملة من العتالين وسواهم في الماضي كانت لبنانية من في غالبيتها جاءت من الارياف، الذين عملوا عمالا في السوق بعد نزوحهم الى مدينة بيروت طلباً للرزق لانعدام فرص العمل في قراهم، وتحولوا بعد فترة الى شركاء في التجارة، وحل مكانهم الاكراد وهم الغالبية، ثم حضرت فئة اخرى في أعمال العتالة قادمة من سورية، واغلبهم من منطقة حوران .

وقد توافد اكراد من تركيا يجيدون الطنق باللغة العربية للعمل في السوق كعمال وأجراء وعتالة، لأن مزاولة هذه المهنة لا تتطلب مهارات حرفية. وبعد عدة سنوات دخل رأس المال الكردي ليحل مكان تجار لبنانيين خرجوا من العمل، نتيجة التقدم بالسن للآباء من ممتهني التجارة بالسوق، ورفض أبناؤهم مزاولة مهن آبائهم في بيع الخضار، مع ازدياد نسب المتعلمين وخريجي الجامعات بينهم، والتحول إلى الوظائف الحكومية وفي القطاع الخاص مع بروز الاقتصاد الريعي وتوسع سبل العيش من قطاع الخدمات المزدهر في حينه، ما أدى إلى تراجع عدد التجار اللبنانيين.

مصادر المنتجات

كانت تأتي إلى السوق البضاعة والخضار من كل مناطق لبنان، بالاضافة إلى فاكهة وخضار مستوردة من سوريا أو غور الاردن ومصر وتركيا أحياناً. وقبل هزيمة الخامس من حزيران سنة 1967 كانت تأتي إلى سوق بيروت منتوجات زراعية من فلسطين لتباع فيه. وأغلب الخضار المستوردة من هذه الدول هي: البطاطا، البصل والمانغا المصرية والخضار والفاكهة الموسمية، إضافة الى بعض الفاكهة الاوروبية الفاخرة، ومنه تتوزع المنتوجات الى كل الاسواق في بيروت والمناطق. وكانت هناك هيبة للروزنامة الزراعية التي يتوجب على التجار احترام أحكامها، بعدم الاستيراد الخضار والفواكة المشابهة للمنتجات اللبنانية في مواسم الإنتاج. ولكن كما العادة كان هناك تلاعب بعد دفع رشاوى على الحدود لرجال الجمارك وفي وزارة الاقتصاد للحصول على التراخيص اللازمة لإدخال البضائع إلى لبنان.

وعلاقة سوق الخضار مع سكان بيروت وضواحيها تمتد من برج حمود والبدوي والرميل والاشرفية وصولاً إلى الضاحية الجنوبية، وما بينهما من أحياء بيروتية. وكانت الضاحية في حينه ما تزال مناطق زراعية ساحلية تعتمد على بساتين الليمون بأنواعه والأكي دنيا، وعلى زراعة الحشائش وإيصالها الى مراكز البيع في السوق. وبهذا كانت كل اهالي هذه المناطق تلتقي في سوق الخضار ووسط مدينة بيروت، حيث تنجدل علاقة اساسية في حياتهم اليومية لتلبية حاجاتهم من السلع. ففي تلك السنوات لم يكن في احياء بيروت وحواريها، وكذلك في المناطق وجود لمحلات السمانة والبقالة والخضار سوى عدد محدود منها مع بائعي الخضار المتجولين بعرباتهم أو في طنابر تجرها خيول هرمة، وكانت تتم ملاحقتهم من شرطة بلدية بيروت وبلديات الضواحي ومصادرة ارزاقهم. كما لا وجود لمحلات بيع الالبسة أو الالكترونيات أو الادوات المنزلية والكهربائية التي كانت في البلد حيث وسط العاصمة هي المورد الرئيسي لكل حاجات الناس. أما دور السينما فقد بدأت في الظهور في الأحياء، لكن ظلت دور السينما التي تقع في البلد هي المقصد، وكان الذهاب إليها بمثابة نزهة عائلية حيث يتوجه أفراد الأسر مجتمعين لمشاهدة فيلم سبق وسمعوا عنه، علماً أن جمهور السينما لم يكن واحداً، إذ لكل فيلم جمهوره المختلف عن الآخر في الاختيار والذائقة الفنية. وبالطبع يلعب البطل أو البطلة والموضوع دورهما في جذب الجمهور. وعندما جاءت الافلام الملونة أخذت الاعلانات الاساسية تضع على واجهاتها اعلاناً يقول أن الفيلم بألوان بال وسيكام، بعد أن بات الأسود والأبيض “موضة قديمة”.

وكانت تشكل هذة الاسواق بمختلف اختصاصاتها مراكز لجميع مشتريات الناس لتنوع الاسوق، وتوافر كل الاصناف فيها: من سوق خضار إلى بقية الاسواق مثل أسواق اللحم والسمك والبيض والدجاج والطيور والاحذية والذهب والحدادين والنجارين والخياطين وسوق الكتب المستعملة، وتجمع دور السينما كميامي وراديو سيتي ودنيا والبيكال المتخصصة في الافلام الهندية، والزهراء حيث تتواصل العروض من الصباح حتى المساء، وأربعة أفلام دفعة واحدة والأجرة ليرة واحدة، والريفولي حيث “خلي بالك من زوزو” وكابيتول في رياض الصلح مع “لحن السعادة” الذي يمتد عرضه لأشهر وسنوات دون انقطاع. إضافة الى سوق البالة قبل شارع فوش قرب سحلب الجليلاتي المقابل لمقهى الاوتوماتيك، وصولاً إلى مطعم مروش وحلويات العريسي والبحصلي، ومنه إلى محلات الثياب في سوق الطويلة الذي كان سوق الاغنياء، ثم سوق اياس، وتمر أمام بركة العنتبلي لتتذوق فيه الرز بحليب أو القشطلية الفاخرة، وباب ادريس، وتطل منه على وادي ابوجميل (وادي اليهود) وساحة البرج، ووسطها تمثال الشهداء وساعة الزهور، والحديقة وسط الساحة المستطيلة، ومحلات الفا والسيد وعطالله فريج لبيع الثياب الرجالية في مبنى سينما الريفولي، وصولاً إلى سوق الوقية لبيع الاقمشة والثياب الجاهزة، مروراً بشارع المعرض وافران الشامي، وكذلك مطعم فول السوسة وعصير السواس. ولا ننسى منطقة الصيفي وملحمة الرومي الشهيرة وكذلك منطقة الجميزة. وفي ساحة رياض الصلح حيث مبنى العسيلى وقهوة فلسطين ومواقف السيارات والبوسطات العمومية امتداداً من رياض الصلح الذي (كان اسمها السابق عصّو)، حيث كان يحيط بمدخل ساحة رياض الصلح سابقاً احد اسوار بيروت وأحد بواباتها السبعة، والاسم هو سور انما في اللهجة البيروتيه تصبح عصّور بدلاً من على السور. ويقال أن سباقاً للخيول كان يجري على الرمال في محلة ما يسمى خندق الغميق اليوم. وكان أهل بيروت يصعدون على سور مدينتهم كي يروا السباق. وكانوا يتنادون قبل انطلاقة لحظة السباق داعين بعضهم للمشاهدة من على السور.. “عصور”، وصولاً إلى العازارية ثم ساحة البرج فالجميزة وساحة الدباس.

أما مبنى اللعازارية الذي يضم وحدات كثيرة، فكانت المحلات فيه تحوي كل اصناف الإنتاج من الالبسة الى الاحذية ودور النشر والمكتبات ومكاتب طيران وأطباء ومحامين ومهندسين. وداخل المبنى الذي نجا من جرافات سوليدير ما تزال إلى اليوم ساحة كبيرة. وهذه الساحة كانت بلدية بيروت تجيز لطلاب المدارس فى شهر ايلول سنوياً أن يقيموا بسطات لبيع كتبهم المستعملة، وشراء ما يلزم للسنة الدراسية المقبلة. وأسعارها مناسبة للفقراء من التلامذة لتأمين كتبهم، مع بعض المال الإضافى لدفع رسم التسجيل في المدرسة الرسمية وشراء بعض حاجياتهم.

ولا ننسى البناية المركزية خلف مبنى العازارية بما تضمه، كما أشرنا إليه قبلاً من دور الصحف والمجلات ومقر نقابة المحررين وغيرها من النقابات والاتحادات العمالية، وبناية السيتي سنتر وفي وسطها ترتفع السيمنا ذات الشكل البيضاوي، وسوق البزركان تحت محلاتها التجارية في الطابق السفلي. وتضم البلد عدداً كبيراً من الكنائس والجوامع موزعة على امتداد مساحتها.فهناك كاتدرائية مار جرجس المارونية وكاتدرائية القديس جرجيوس للروم الارثوذكس وكنيسة القديس نيشان للارمن الارثوذكس وكاتدرائية القديس إيليا للارمن الكاثوليك وكاتدرائية القديس مارالياس الكاثوليكية والكنيسة الانجيلية الوطنية وكاتدرائية القديس الياس اليونانية الكاثولكية وكنيسة القديس لويس الكبوشي وكنيسة جميع القديسين الانجليكانية. أما الجوامع فأبرزها: مسجد محمد الامين، والمسجد العمري الكبير ومسجد ابو بكر الصديق ومسجد المجيدية قرب ميناء الخشب ومسجد الامير منصور عساف قرب مبنى جريدة النهار حالياً ومسجد الامير منذر ومسجد الخضر. وهناك كنيس لليهود في منطقة وادي ابوجميل المسماة وادي اليهود، وقد أعيد ترميمه مؤخراً. والكل كان يمارس طقوسه وشعائره دون أدنى تذمر من الآخرين.

حركة السوق دائمة، وهي على مدار 24 ساعة عدد ساعات اليوم. ليلاً تأتي الخضار بشاحنات من المناطق الجنوب والبقاع وعكار والشمال، وطبعاً من الجبل في الشوف وكسروان، فتفرض ايقاعها على “المنطقة الخضراء” في المدينة التي لا تنام، وتعاني من الزحمة لتأمين دخولها وتفريغ بضائعها وتحميل الصناديق الفارغة للعودة بها إلى المزارع والسهول. وهذه الحركة المتواصلة تفرض نفسها على عمل السوق برمته. هناك زبائن النهار واسواقه ومشترياته ورجاله، وهناك زبائن الليل واسواقه ومعلميه وشغيلته، ومعها يتحول جزء كبير من عمل المدينة من التجارة وبيع المنتجات المختلفة إلى مطاعم ومقاهي وعلب ليل وبيوت دعارة في شارع المتنبي، وكلها تتجمع وراء مخفر البرج الأثري مع لافتات أسماء صاحباتها، ومشغليهم المتربصين في الطرقات لاصطياد الزبائن من المارة والعابرين. ومن اطراف منطقة الصيفي تتجه إلى منطقة الجميزة وصولاً إلى ساحة الدباس.

وتشرف ساحة البرج وشهدائها على مداخل أغلب الاسواق، من سوق الذهب إلى سوق ابو النصر، وتطل على كنيسة مار مارون، ومنها تصل إلى جامع المجيدية عندما تتحول باتجاه البحر نحو القاعدة البحرية للجيش اللبناني. ولا ننسى اكثر مقهى شهرة وشعبية “قهوة الحاج داوود” المقامة في بحر الزيتونة وتمشي على جسر من الخشب فوق مياه البحر لتصل الى المقهى الذي يبدو أشبه ما يكون بجزيرة وسط البحر. وفيه يجتمع السياسيون والصحافيون على اطيب صحن فول وفنجان من القهوة والنرجيلة العجمية البيروتية. ومنها تصل إلى منطقة الزيتونة ومطاعمها وملاهيها واشهرها ملهى الكيت كات، ومعظم رواده من الاجانب، لتصل إلى اوتيل فينيسيا وعين المريسة وكورنيش المنارة ورواد شاطئه من فقراء أهل بيروت والضواحي.

من يشاهد اليوم الوسط التجاري المدمر والخالي من اية حركة تجارية، اللّهم باستثناء قاصدي البنوك في شارع المصارف والفرع الرئيسي لوزارة البريد والبرق والهاتف قبل أن تتحول الى “وزارة الاتصالات”، يلاحظ انعدام الحركة تماماً وبقائها مقتصرة على أعضاء مجلس النواب بسياراتهم السوداء بنوافذها التي تحجب الخارج عمن في داخلها من أشخاص، مع شرطة المجلس باسلاكهم الشائكة وتحصيناتهم العالية. سوى ذلك لا شيء موجود غير الفراغ ورفوف الحمام المستوحدة تغزل في الطرقات عما تقتات به.

اما باقي الحركة الاقتصادية فقد إنزاحت من الاسواق والساحة نحو منطقتي الجميزة ومارمخايل لوجود المقاهي والمطاعم وعلب الليل. ورغم أنها تشكل ازعاجاً وقلقاً متزايداً لسكان المنطقة، الا أنها تعيد بعض الحيوية والبسمة والحضور لفئات من الشباب من أعمار مختلفة ، إلى جانب حركة اقتصادية مقبولة بالمقارنة مع حال الفراغ، بل الانهيار الحاصل في لبنان الذي وصل إلى الحضيض فىي ظل الشغور الرئاسي الذي يهدد مصير لبنان ووجود البلد في قلبه.

لا فائدة من المناشدات للسلطة في فتح ملف إعادة إعمار ما خلفه انفجار المرفأ من ضحايا ومجروحين،علماً أن القطاع الخاص والكثير من الجمعيات المدنية والاهلية والدولية مع المنصات الاغترابية قدمت مساعدات لاصلاح الكثير من المباني، منها التراثي والسكني والاقتصادي. إضافة للعديد من البنى التحتية، وسط غياب تام من الوزارات والإدارات المعنية، خصوصاً وزارة الاشغال العامة ومجلس الإنماء والاعمار وبلدية بيروت من رئيسها إلي المحافظ.

وتبقى أولاً واخيراً مسؤولية السلطة السياسية والقضائية، وليست مسؤولية المجتمع المدني او الجمعيات الاهلية والاغترابية عن كشف ملابسات جريمة المرفأ وتحقيق العدالة للضحايا الذين سقطوا خلال التفجير وبعده. والواجب يقضي بتوجيه الشكر لكل المساهمين على الجهد والاموال التي بادروا إليها، والتي أدت إلى صمود الاهالي وقطع الطريق على تجار الكوارث، وسماسرة الاراضي والمشاريع المالية عبر الاستيلاء على أهم منطقة تراثية، لتحويلها إلى مسرح نهب مالي كبير على غرار ما جرى في مشروع سوليدير وغيره من مشاريع مماثلة.

الوسط التجاري كما عرفناه في مراحل سابقة من عمرنا لن يعود تماماً كما كان عليه، ولكن كيف نحافظ على ما تبقى صامداً من الذاكرة والتراث، للحفاظ على القيمة الحضارية والاجتماعية لتاريخنا ولمنعهم من شطبها، وبهدف القيام بعملية إعمار حقيقية لوسط المدينة، من خلال حداثة تتماهى مع هذا التراث بروحه المشتركة بين الناس، وتترافق مع العصرنة التي تستعيد نبض الوسط بما فيه من تأمين الحيوية إلى قطاعاتها الثقافية والسياحية والتعليمية والطبابة والموسيقى لتصدح اصواتها معلنة أن هذه المدينة لا تموت، وأنها مثل طائر الفينيق، وسوف تنهض من بين ركام الحروب والتفجيرات لتضج بحياة مفتوحة على مستقبل مشرق لا بد وأن يصنعه الناس من كل الفئات والمشارب، فالمكان لهم، ساحات وشوارع وأسواق. الحلقة الاخيرة.

اخترنا لك