علامات نهاية هذا الزمان

بقلم د. ميشال الشماعي

هذا الهيكل الذي يعتبرونه عظيماً، لن يُترَكَ منه حجرٌ فوق حجرٍ إلا ويهدَم. والفارق الوحيد بين الهيكل الذي تحدّث عنه المسيح في زمنه، وهيكل هذه الدّولة التي بُنيَت بيد احتلال على أنقاض احتلال، واستمرّت بسيطرة احتلال آخر؛ نعرف الساعة واليوم اللذين سيسقط فيهما هذا الهيكل، ونحن ساهرون ومصابيحنا مشتعلة. ولكن ما هي الطريق التي سيتمّ اختيارها لإعادة بناء هذا الهيكل؟ وهل يستطيع اللبنانيّون الصمود بعد حتّى تقترب هذه الساعة؟

لقد نبّهنا المخلّص من ألا يُضلّنا أحد. لكنّ قسماً كبيراً منّا أضلّ طريقه، وخُدِعَ بشعارات التحرير، وبعدها بشعارات الإصلاح والتغيير، واستعادة حقوق المسيحيين. وأضاع هؤلاء أكثر من أربعين سنة من عمر الوطن. عايشنا حروبهم كلّها. ولم نرتعب. لإيماننا بأنّ ذلك لا بدّ أن يحدث. ولكن ليست النهاية بعد. انقلبت أمّة على أمّة. ومملكة على مملكة. أسلمونا إلى المحاكم والمجامع. ضُرِبنا ومَثَلنَا أمام قضاتهم وحكّامهم، لكنّنا لم نشهد إلا للبنان الـ10452 كلم2. وهذا ما بشّرنا به طوال أكثر من خمسة عشر عاماً من الاضطهاد المستمرّ.

ساقونا إلى المذابح. ولم ننشغل بما سنقوله لأنّ الرّوح كان دائماً ملهمنا. وحدث زلزال 6 شباط 2006، لكنّ ذلك كان أوّل المخاض. الأخ أسلم أخاه إلى الموت، والأب ولده، وانقلَب الأولاد على والديهم فقتلوهم. كُرِهنا. لكنّنا ثبَتنا. واليوم نرى رجاسة الخراب قائمة حيث لا ينبغي. ونعيش في هذه الأيّام ضيقة لم يحدث مثلها منذ بدء لبنان. وإيماننا أنّه لن يحدث مثلها مجدّداً. وإيماننا أيضاً أنّ تلك الأيّام اختُصِرَت لأجل أولئك الذين سبقونا واعتلوا عرش الملكوت شهداء أبراراً على درب القداسة.

وما يؤلمنا في هذه الأيّام أنّ بعضهم ما زال يرى الخلاص في بعض الدّجالين الذين يدّعون الخلاص، فيقدّمون أنفسهم رسل حوار وسلام وتغيير ليضلّوا حتّى المختارين. ونجحوا في 15 أيّار 2022. وما نعيشه راهناً هو نتيجة ضلالهم. ولم يصدّقوا ما قلناه لهم. وما نبّهناهم منه طوال السنين كلّها، لقساوة قلوبهم. فكما تكونون يولّى عليكم. هذه حقيقة الشعب اللبناني.

واليوم أظلمت أيّام الوطن. وانطفأت شمسه، والقمر حُجب ضوؤه. وتهاوت نجوم الحوار الحقيقي. وتزعزعت قوّات الذين سبقونا إلى عَلُ. ولكنّ المختارين اجتمعوا من الجهات الأربع، من أقصى الأرض إلى أقصى السماء. وما اجتماعهم بقدرة إنسان بل بقدرة التاريخ لخلاص هذا الوطن. فأغصان شجرة التين قد لانت، وأوراقها طلعت. إذاً الصيف قريب، بل على الأبواب. وأيّ نظام حياة في الكون لا يصحّح نفسه بنفسه، يعني أنّ الخطأ في هذا النّظام.

الحقّ الحقّ أقول لكم: السماء والأرض تزولان، وحرف واحد من حروف هذا الوطن لن يزول. هنا تاريخنا. هنا شهداؤنا. وهنا وطننا. ولا شيء يغني عن الوطن. ومَن يتخلَّ عن وطنه يتحوّل إلى مجرّد رقم، ويبقَ على هامش هذه الحياة. الخيار اليوم أمامنا. إمّا أن نعيش حياتنا الكاملة ولو بالوحل مقاومين، وإمّا أن نعيش حياة ناقصة في القصور خانعين. ونحن اخترنا ألّا نغيّر هويّتنا، وارتضينا أن نعيش في الوحول، لنعبر بالوطن إلى الخلاص.

وهذا العبور لن يتحقّق مع الرّماديّين والتسوويّين. أو يكون رئيس لبنان رئيساً بكلّ ما للكلمة من معنى، أو لن يكون أيّ رئيس. نملك الوزن الفاعل لأنّ النّاس وثقوا بنا. ومن غير المسموح ألا نكون أهلاً لهذه الثقة. فلبنان قائم على هذا النّهج. وهذه هي الطريق التي نسلكها. ولسنا مستعدّين حتّى لتحويرها.

فاليوم أكثر من أيّ زمن مضى، رهان النّاس على هذه القلّة التي ما زالت مؤمنة بلبنان الحضارة. ومهمّتنا لا تقتصر فقط على إيصال الرّئيس «الرّئيس» إلى سدّة الرّئاسة الأولى؛ لكنّ مهمّتنا الحقيقيّة تكمن في كيفيّة الذهاب إلى نظام يكفل انتظام العمل المؤسّساتي ويمنع «السلبطة» والتعطيل والاستزلام. نحن على مفترق طرق إقليميّ ودوليّ ومحلّيٍّ. ولن نقبل بأيّ حلول ترقيعيّة أو رماديّة. وأيّ اجتماع لمناقشة تجميل هذه الأطر، لن يكون الخلاص عبره.

فالأخطاء التي ارتكبتها إيران بدخولها في المواجهة العالميّة عبر «شاهد» في أوكرانيا، والاصطفاف في محور روسيا مواجهةً لأكثر من نصف الكرة الأرضيّة، هو ما دفعها لتحصين حديقتها الخلفيّة الخليجيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة، لعلّها تكون المتنفّس. والأخيرة أعطتها مهلة شهرين لإثبات حسن نواياها. لكنّ الجمهوريّة الإسلاميّة ستمارس التقيّة الدبلوماسيّة لتحافظ على ما وصلت إليه. وستعمل على وضع المنطقة في ثلاجة الانتظار ريثما تمرّ هذه العاصفة الدوليّة.

فبرغم الشلل الذي يطال القطاعات اللبنانيّة كافّة؛ وبرغم أنّنا نقف على تقاطع للمصالح، علينا أن نعرف كيف نحقّق مصلحتنا التي لا تكمن بالعودة إلى لبنان الذي لم يعد يشبه تاريخنا وحضارتنا التعدّديّة. ولا يمكن لنا إلّا أن نصمد، لأنّ مَن يصبر إلى المنتهى… يخلُص.

اخترنا لك