بقلم غسان صليبي
ليس جديداً ان الثقافة السياسية في لبنان، في انحطاط تام. لكن هذا الانحطاط تمظهر في الأيام السابقة الأخيرة بشكل فاقع. أقول “تمظهر”، لأنه ظهر في الفيديو المسرّب عن اجتماع بري وميقاتي، مبيناً بأي خفة جرى اتخاذ قرار الحفاظ على التوقيت الشتوي. كما جرى تخيّل هذا الانحطاط بسهولة، على ضوء المشادات الكلامية التي حصلت بين نواب في المجلس النيابي، واللغة المنحطة سياسياً وأخلاقياً التي استخدمت فيها.
أهم ما في فيديو بري-ميقاتي، أنه رصد بالصوت والصورة، العلاقة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وكيف ان الاولى تتحكم بالثانية. قرار ميقاتي الفردي بالاستمرار بالتوقيت الشتوي من دون العودة الى مجلس الوزراء، رصد كيفية اتخاذ القرارات في هذا المجلس. مؤشرات تعطل النظام الديموقراطي البرلماني الذي نص عليه الدستور، لا تقتصر على هاتين الملاحظتين، فمن أبرز المؤشرات، رفض تأليف حكومات تمثل الأكثرية النيابية، والاصرار على تشكيل حكومات “الوحدة الوطنية”، مما يلغي أي إمكان لمعارضة سياسية نيابية فاعلة، وهذا في صلب مفهوم “ديموقراطية” النظام البرلماني، بالإضافة الى شرط فصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية.
يمكن إعطاء أمثلة أخرى كثيرة عن عملية مسح الثقافة السياسية في لبنان، عبر تعطيل ممارسة الحياة السياسية بشكل عام. الأحزاب السياسية هي في صلب الحياة السياسية، وطريقة تكوينها واشتغالها هي من المعايير الاساسية لتقييم مدى حيوية الحياة السياسية في مسار البلدان ونضجها وفاعليتها. فلنأخذ مصطلح “ألحزب” المتداول على شفاه اللبنانيين، كنموذج للانحطاط الذي وصلت اليه الممارسة والثقافة السياسيتان.
صحيح أنه في مناطق الجنوب والبقاع يقولون “الحزب” لتمييز “#حزب الله “عن “الحركة”، أي عن حركة “امل”. وصحيح أيضاً انه في مرحلة سابقة على نشأة “حزب الله”، وفي المناطق نفسها، عندما كانوا يقولون “الحزب” كان المقصود الحزب الشيوعي الذي اتصف ببنية تنظيمية متراصة، والبعض يقول “حديدية”، ميّزته عن التنظيمات السياسية الأخرى من مثل “منظمة العمل الشيوعي” وغيرها، التي فضّلت على ما يبدو، تسميات، تتناسب أكثر مع حجم منتسبيها الأقل عدداً، أو مع مفهومها لبنى تنظيمية أكثر مرونة وديموقراطية من حيث المبدأ، وليس بالضرورة من حيث الممارسة الفعلية.
“فكرة” الحزب السياسي في لبنان، ترسخت على صورة أول ثلاثة احزاب، “الشيوعي” و”الكتائب” و”القومي”، وجميعها أحزاب “حديدية”، تعطي الرئيس أو الأمين العام صلاحيات واسعة، تكاد تكون مطلقة، وتشبه إلى حد بعيد “صلاحيات” الزعيم الاقطاعي أو رؤساء المؤسسات الدينية.
لكننا بتنا اليوم، وفي كل لبنان تقريباً، عندما نقول “الحزب”، نقصد “حزب الله”، كأننا نسينا أن الأحزاب الاخرى هي أحزاب، وكأنه لم يبقَ في بالنا في شأن “الحزب السياسي” إلا كونه ذا تنظيم حديدي، سيما أن هذا الحزب بزّ الأحزاب الأخرى بحديدية تنظيمه.
لا حاجة لزيادة كلمة أو وصف أو تلميحة وجه، حتى يفهم الآخرون من نقصد، عندما نقول “الحزب”، فالكل مجمع أن “الحزب” يعني حصرا “حزب الله”، و”ال” التعريف في بداية الكلمة توحي بأنه الحزب الوحيد في لبنان، والبقية تنظيمات من نوع آخر أو أشباه أحزاب.
وبما أن كلمة “حزب” هي اختصار لتعبير “حزب سياسي”، فإن المفارقة الفاقعة أن “حزب الله” ليس حزباً سياسياً، لا في نشأته ولا في عقيدته ولا في تركيبته، بل تنظيم ديني عسكري يتعاطى السياسة. يقول ماكس فيبر ان “الحزب السياسي هو ابن الديموقراطية والاقتراع العام والنظام البرلماني”. ما يجمع أعضاء الحزب السياسي هي توجهات أو عقيدة سياسية. وكان على السياسة في الديموقراطية أن تتحرّر عبر التاريخ، من وطأة السلاح من جهة، عبر احتكاره من الدولة ومنعه على المواطنين، ومن هيمنة الدين من جهة ثانية، عبر فصل الدين عن الدولة.
عندما يتفق الناس في لغتهم المتداولة على أن “حزب الله “هو “الحزب”، فيما لا يسمّون الأحزاب السياسية الأخرى بـ”الحزب” بل بأسمائها المعروفة، نكون نشهد انقلاباً في المفاهيم والوعي السياسيين لصالح القوة العسكرية، بعقيدتها الدينية المنافية للسياسة، التي تستولي بدورها على مفهوم السياسة بعد ان تمسخ معناه.
نستذكر في عملية الانقلاب هذه، السياسية والثقافية، المقولة الماركسية بأن الفكر السائد بين الناس هو فكر الطبقة المسيطرة، وكيف أن المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي، وفي نقده للنزعة الاقتصادية الماركسية عند البعض، ركّز على دور العامل الثقافي في عملية هيمنة قيم النظام الرأسمالي على وعي الطبقات الشعبية. طبعا في الحالة التي تعنينا، ليست الطبقة بمفهومها الاجتماعي- الاقتصادي الماركسي، بل بمفهومها العسكري-الديني وتفرعاتها الاقتصادية، كطبقة مسيطرة على المسار السياسي.
ربما ساعدنا ذلك في فهم عامل من عوامل سيطرة فكر “الممانعة”، على عقول الكثير من “اليساريين الماركسيين” او “الشيوعيين”، مع العلم أن هذه السيطرة الثقافية، على الحزب الشيوعي وغيره، لها جذور مذهبية أيضاً، فضلا عن وسائلها العسكرية القمعية.