بقلم نبيل مملوك
استطاع خالد يوسف أن يقدّم تجربته الدراميّة التلفزيونيّة الأولى “سرّه الباتع” (إنتاج تامر مرسي 2023 – إخراج وسيناريو خالد يوسف)، جاعلاً الصّورة تتكلّم كندّ للنصّ المستوحى من رواية الأديب القدير يوسف إدريس، معتمداً على الحركة التي فرضها النّص الروائيّ، وتقنيّة الزمن التي تحثّ السرد، تلفزيونيّاً كان أم أدبيّاً، على تقديم الأحداث على حساب السكون الحواريّ، فما هو مؤشّر تكامل النّص والصورة؟ وكيف نطقتْ على أنّها نصّ تاريخيّ مستقلّ بحالها؟ وما هو سرّ الأسلوب التلفزيونيّ المقارن بين الماضي والحاضر؟
لم تكن البطولة محصورة بممثل واحد، بالرغم من أنّ أداء أحمد السعدني (السلطان حامد) كان كعنوان لكلّ المشاهد اللاحقة، فهو رغم أنّ اسمه “الثيمة” الأساس التي ترتكز عليها المخطوطات المفقودة، والتي وجد بعضها حامد الثاني (أحمد فهمي)، إلّا أنّ الشخصيّتين الأساسيّتيْن لم تستطيعا التحرّك وتقديم ذواتهما المختلفة السلوك وفقاً لاِختلاف الحدث رغم انسجامها مع باقي الشخصيّات.
فالماضي البعيد، ماضي نابوليون المهيمن والقاسي والرّاغب في نسف أيّ أسطورة تشكّل له خسارات متتالية، برهنت أنّ البطولة كانت للجميع، فحامد (أحمد السعدني) لم يكن ليغدو أسطورة وقائداً وسلطاناً لولا الجماعة التي رفعته على أكفّها نحو القيادة، وهنا يحضرنا مؤشّران :
الأوّل المعالجة النصيّة الدرامية التي بنيت على أنّ حامداً لم يكن ليبدأ طريقه لولا إيمان أبناء قريته الذين كانوا مجموعة صغيرة وكبرت في ما بعد لتصبح فوج مقاومة للمستعمر، وقد تقصّد السيناريست ومخرج العمل التركيز على هذه الزاوية إخراجيّاً من خلال مؤشّريْن: الأوّل جعل معظم مشاهد السلطان حامد بين الجماعة، أي أنّهم جزءٌ منه وهو جزءٌ منهم.
والثّاني أن تنتهي حياة حامد ومقاومته بانتهاء رفاقه الأساس (الحلقة 29 موت حامد وبشّار، الذي تلاه الموت الروحانيّ لوالدة حامد (هالة صدقي)، التي أعطت بُعداً صوفيّاً لاستشهاد اِبنها).
العمل الإخراجيّ مبنيّ على المجموع وهندسته وهي التقنيّة المستوحاة من أعمال الراحل يوسف شاهين (أستاذ المخرج)، حيث كان لهندسة الجماعة ودورها في صقل شخصيّات العمل دور هامّ اِنسحب على نابليون الذي أبرز ببطشه وانفعاله دور كليمون (حسين فهمي)، المستشرق الطوباويّ العاقل الذي انتمى بفكره إلى الإنسان لا إلى الهويّة، وقد استطاع حسين فهمي بمشاهده القليلة أن يكون السّارد الملك القابض على الحكايا.
البطولات الجماعيّة اِنسحبت على الحاضر أيضاً حيث كان لحامد الثاني (أحمد فهمي) الدور الأساس في إظهار استعداد الجماعة المؤلّفة من الصديقة والحبيبة سارة الخبيرة في السياحة والآثار والدكتور يوسف (محمود قابيل) شكّلوا فيما بينهم شبكة حركيّة انتقلت من حالة إلى حالة، ومن مغامرة إلى أخرى ومن مأزق نفسيّ إلى آخر…
استطاع خالد يوسف والممثلون أن يكونوا شبكة تختصر الصيغة الجماعيّة المنظّمة التي تعكس المشاهد بوضوح، ما جعل الحركة تستقطب المشاهدين دون المزج بين الحاضر والماضي، بل أعطتهم ميزة الرّبط بينهما.
المشهديات المقارنة… والتراجيديا
منذ الحلقات الأولى للمسلسل والمقارنة حاضرة بين جيل السلطان حامد وجيل حامد الثاني، بين العدوّين: المستعمِر الفرنسيّ وجماعة الإخوان المسلمين، لكنّ التراجيديا والهدم اللذين اِتّبعتهما المنظومتان (منظومة بونابرت ومنظومة مرسي) هي التي أبرزت بقوّة الوجه الواحد للمحتلّين، وهذه تعدّ نقطة تسجّل للمخرج، لأنّ النصّ بحقبته الحاضرة لم يكن إلّا إضافة منه… فموت السلطان حامد وتنكيل بونابرت بجثّته ومقاماته الذي تلاها مشهديّاً هدمُ جماعة الإخوان لمقامات السلطان واعتداؤهم على المتظاهرين بالأسلحة البيضاء، وسفكُهم دماءَ المناهضين لهم، شكّل صورة وموقفاً واضحاً لخالد يوسف، بأنّ للمحتلّ أشكالًا متعدّدة، لكنّ الجوهرَ واحدٌ وهو السيطرة والاِستبداد والهيمنة ولو كلّف الأمر بحوراً من الدماء…
ولم يكن توظيف التراجيديا إلّا إشارة ورسالة تخترق انتباه المُشاهد، فالموت هو الحقيقة المنافية للحياة، والعامل المحرّك الأبرز لإرادة الشعوب في الحياة. وما تقاطع الحقبتين عند العراك والاِشتباك ورغبة المحتلّين بالبقاء والمحو إلّا خير دليل.
نجح “سرّه الباتع” رغم الانتقادات النابع معظمها من كره شخصيّ للقيّم على العمل، بإعادة التاريخ إلى واجهته الحاضرة، وإثبات أنّ النّصّ المنسوب أصله إلى الأديب يوسف إدريس قابلٌ للاِستكمال والوقوف عند اشكاليّة واحدة: إلى متى سيبقى النّص الدراميّ محصوراً في زمن محدّد؟ وهل رؤية المخرج هي الوجه الآخر للحقيقة؟