مئة عام على ولادة عاصي رحباني ( 4 أيّار 1923 – 21 تمّوز 1986 )

عشنا لبنانَكَ أسطورتَكَ لا حياتَنا التي يجب أنْ نجترحها لنحياها

بقلم عقل العويط

في يوم ميلادكَ المئة، لن أقرّظّكَ، لن أمدحكَ، لن أكيلَ لكَ الأوصاف والصفات، وقد سئمتُ أنا منها، مثلما أنتَ ضجرتَ، وعنها نأيتَ، ومنها هربتَ. أقف أمام وزناتكَ، أمام الكنوز، فلا يعنيني في شيءٍ أنْ أحصي الممتلكات. العبقريّات، هي، في كلّ حال، لا تؤخذ بإحصاء، لأنّ الدلالة تتخطّى التفسير، تأنف العدد. ولأنّ المعنى هو الشكل، وهو كلّ المعنى، وهو الأسلوب كلّه، ويتفوّق على جغرافيا الأرزاق، ويتفادى التورط (التملغص) في تقسيم الحصص والإرث والميراث. ها أنتَ المولود قبل مئة عام، لكأنّك تولَد الآن، لكأنّكَ تبزغ غدًا، عميقًا – سأقول – كأرزة، طريًّا – سأشمّ عطركَ – كنبع. أفلا ينبغي لي من أجل وجودي، من أجل استكمال الحقّ والعزاء، أنْ أهرعَ إلى سهولكَ، إلى جبالكَ، إلى الأهراءات، إلى الخير الذي يؤدّيه طحينكَ، أغرفه، أمتلئ به، وبه أتحصّن، وبه أرفل، وعليه أتّكئ، لأدرأ الحياةَ، لأسدّ الرمقَ والحياة، وقد آلتْ إلى الخرابِ يلي فلولَ العدم والهباء؟!

الحدسُ، وهو موهبةُ الشعر، يومئ أنّ خميركَ مخصبٌ وكثيرٌ، وهو – ولا بدّ – إلى أجيالٍ وأجيال. وأنّ سماءكَ لن تبخل بمطرٍ، ولا بزرعٍ، ولن تضنّ بربيع. وأنّكَ الكرْمُ كلّما لَذَّعَنا قحطٌ، أو قسا علينا هجيرٌ، أو كلّما اجتاحنا موتٌ، وخَرَّبتنا جحافلُ إرهابٍ ويأس، ومتى رَجَّف أرواحَنا عصفُ زلزالٍ، وكلّما أَوجَعَ أشعارَنا وأرواحَنا هجسُ زمهريرٍ وهولُ تفجير.

أنا فقيرُكَ، أنا الفقيرُ إليكَ. وأنا مَن في حاجةٍ إلى مسعاكَ ومعناكَ ومرتجاكَ. أنتَ، على الأرجح، لا. لستَ في حاجةٍ إليَّ.

هديلُ فنونكَ قد لا يُغني عن كلِّ غصنٍ وبلبلٍ، وقد لا يُنَسّي هديلَ الحمامِ والغمام. لكنّ حمحماتِ عقلكَ، حمحماتِ خيلكَ ومراتبَ الموسيقى تفتح الأزرقَ لي والأفقَ وسائرَ الشرفاتِ والرتاجاتِ وكلَّ شقوقِ الأبواب. غيومُكَ تهمي على عبوري، وأوراقُكَ الحبرُ تشقّ دروبَ الأحلامِ والأنهار، وألحانُكَ الفاكهةُ تشدّد عزمَ القلب، وإيقاعُكَ الخصرُ يرشد الإيقاعَ إلى الإيقاع، وشِعرُكَ الأخضرُ والذهبُ والغمرُ، ورؤياكَ الزبدةُ والجملةُ والنقطةُ والفاصلةُ وصفوةُ اللغة ووئامُ المنتهى.

فهنيئًا مولدُكَ المئةُ، وهنيئًا أنّكَ حيث أنتَ، وأنّكَ لستَ في الهنا، علمًا أنّ الأمكنةَ لكَ، وفي الهناك.

أصداحٌ هذا، أصداحٌ أنتَ، أم وقْعُ نسيمكَ في الروح؟! أموسيقى، أم كلماتٌ، أم هي إشاراتُ المثول في ما لا يعتريه لبسٌ ولا هوانٌ؟! لا أقرّظكَ، لا أصفكَ، لا أكيل لكَ المدائح. لكنْ، ما أجملكَ لأنّكَ كلّ ما ينزف فيكَ ومنكَ هو جمرٌ ونهرٌ وحبر. لأنّكَ كلّ ما تتنفّسه وما يتنفّسكَ هو صوتٌ أو وحيٌ أو هو العليلُ النسيمُ الهواء. إذا قيلَ ليلٌ فلأجل أنْ تكونَ فلسفة. وإذا قيلَ نهارٌ، فلأجل أنْ تكونَ شمس. وإذا عيدٌ، فلأجل أنْ يتمسّكَ ربيعٌ بشجرِ اللوز، أو يتعمشقَ بشهقةِ عشيق. كثيرُكَ ينابيعُ، وصخورٌ تهتدي بجبالٍ، ووعرٌ، ومنبسطٌ، وحقولٌ ليكون القمح، وكلّ ما تلتمّسه الأبواقُ من تأوّهِ العبارات. وهنيهاتُكَ أحواضُ زهورٍ لتعثرَ الشرفاتُ على منارات. والشواطئُ الموانئُ، أليس من أجل أنْ تفترضَ المراكبُ حسنَ الرسوّ، وأنْ يسلّمَ صيّادوها غلالَ الإبحارِ ووفرةَ الوصول؟ السماءُ كثيرةٌ قليلةٌ فوقكَ. أأنتَ، إذًا، موعودٌ بمدائحِ السماء؟ أم هي السماءُ موعودةٌ بكَ، بتعاويذِ القصائدِ والنغمات؟ والأرضُ الأرضُ قليلةٌ كثيرةٌ تحت قدميكَ. أأنتَ، إذًا، موعودٌ بمواهبِ الأرض، أم هي الأرضُ موعودةٌ بكَ، بمواهبِ الباطنِ والبروقِ والخربشات؟
يهنّئكَ البزق، في ميلادكَ المئة، يزغرد لكَ، لأنّه بوصلةُ الأصابعِ إلى الشبق. ولأنّ ابتسامتكَ سكرةُ الماءِ السلسبيلِ في الفخّار في الإبريق. أيّ وقتٍ هو الأنسبُ للرغيف. أيّ زمانٍ هو الأنسبُ لترقرقِ الطيوب. لا تقلْ إنّكَ موجوعٌ. لا تقلْ إنّكَ جريح. عطبُ الساعةِ أنّها تؤمن بالهندسة. عطبُكَ أنّكَ أعمقُ من لهفةِ عندليب. ما من لونٍ يهرب منكَ. ما من هزيع. والفجرُ لكَ، كما أنّ غاباتِكَ ليست تكون بمتاهاتِ الشجرِ فحسب. كما أنّ غاباتِكَ تكون بالكلماتِ بالنظراتِ تُراسِل الكلماتِ والنظراتِ التي ليست لأفولٍ او لانتهاء. وأقول يا لعينيكَ لأنّهما تستلقيان على عريشةِ مصطبة. يا لهما لأنّهما تحاوران قمرَ الجبالِ وراءَ الجبال أمامَ الجبال. ألا تصطفيكَ الظلالُ البليلةُ لتجدَ المبتغى؟ أما يندهكَ الضوءُ فلا يلبث أنْ ينسربَ، أنْ يندغمَ، في حنينِ الابتهال؟
برنيطتُكَ موسيقى. يداكَ موسيقى. والصوتُ هو موسيقى. وإذا الأشعارُ ارتأتْ أنْ تكونَ أشعارًا، فلأنّها موسيقى. والمنطقُ ذاتُهُ هو الساري إذا اشتهتِ الموسيقى أنْ تتعالى، أنْ تُلاقي مقامَ الصوت، مقامَ الأداء، وأثيرَ الأغنية. وبالقياسِ عينه يمكن الموسيقى أنْ تتجسّدَ أنْ تتجرّدَ أنْ تشتهي لتصيرَ كلمات، لتصيرَ بنات الكلمات. وإذا وجدتَ أنّ الصيفَ ملائمٌ لشمسِ القطاف فستكون الغلالُ كثيفةً، مثلما هي الأوديةُ، مثلما هي السلالُ، ومثلما الشفاهُ للشفاه. نبيذُكَ للفصولِ الأربعة، ولن ينسى الفصلَ المكرَّسَ لقانا التي في الجليل. مائدتُكَ للجائعين إلى الحلمِ إلى التوقِ إلى الهجسِ إلى الوئامِ إلى العقلِ إلى الودِّ الأمين. أخضرُكَ للصعترِ للزيتونِ ولِما يكون مشمشًا وسفرجلًا بعدَ وقتِ الملحِ والبهارِ والسمّاقِ الكريم.

لا مفرَّ من الحبِّ من الهوى، ولا سيّما عندما القلبُ يستلذّ رهافةَ النصلِ للسكّين، وعندما عندما النهدُ ينطّ يقفز من القميص، وعندما تبزغ القبلةُ الحرّى من جمرِ الألفةِ إلى الهجسِ إلى الضمِّ وتدليكِ أهواءِ الضنى والحنين. وفي أوقاتِ اللوعةِ القصوى، لا مفرَّ، أكرّرُ، لا مفرَّ من البيدرِ للقمح، لأنّ بيدرَ فنونكَ يأنف خلطةَ الترابِ والزؤانِ والحصى، ولأنّه للصاجِ للمرقوقِ للكعكِ خصوصًا، لهتافِ التائقين إلى اللقمةِ وحبّةِ الزيتونِ واللبنةِ وأناقةِ الجلوسِ في هنيهاتِ الرنين.

وكما أوصيتُكَ، أعودُ أوصيكَ بكرومِ العنبِ والتينِ، بالسنديانِ واللزّابِ والأرزِ، لئلّا يشعرَ ثائرٌ حرٌّ بالوحشةِ، لئلّا يشردَ عصفورٌ خارجَ جاذبيّةِ الأحلام، خارجَ الخيالات، خارجَ المدار، فيقع في الهولِ، في البئرِ، في تهلكةِ العدمِ والأنين.

وكما أوصيتُكَ، أعودُ أوصيكَ بالكمنجةِ بالعودِ بالدفِّ بالياسمينِ بالزيزفونِ، لئلّا يتيهَ العطرُ، لئلّا يضيعَ الوزنُ والقاموسُ، فتقع العروسُ في الخسرانِ الجمِّ في الندمِ الأليم. وأعودُ أوصيكَ أنْ لا تتركَ الحمامَ يفلت من ضحكتكَ. أنْ لا تكتمَ فذلكاتِ الديكِ لئلّا يتوقّفَ عن الصياحِ والفجرِ ومواجهةِ النهارِ بالتفلسفِ، حيث يحلو له أنْ يتباهى ويصيح ويتفلسف.

وكما أوصيتُكَ، أعودُ أوصيكَ لا تحرد. لا تزعل. لا تغادر. رؤياكَ هنا. أحلامكَ هنا. وكرسيّكَ هنا، ووردةٌ لكَ على الطاولة هناك. وفنجانُ قهوة. والوليمةُ تتّسع للضيوف في انطلياسَ في الفوّارِ والجوار، وفوقَ النهر، وتحتَ العريشةِ، وعلى السطيحةِ، وأمامَ البحرِ اللّانهائيّ الرصين. وللميجانا الفسحةُ المفتوحةُ على الأفق، وللعتابا ولأبيات المعنّى، ولا سيّما العامّيّة الفصحى ومعها الفصحى. وما أدراكَ، وأنتَ الأدرى والأعلم، كيف يتلوّى موشّحٌ ويتأوّه، ولا بدّ أنْ تنشرحَ أساريرُكَ وتفيضَ عيناكَ، ويلثمكَ النسيمُ العليل، وتنضحَ كأسُ العرق، ويصوفر بوليسُ البلديّة، ويلقي التحيّةَ على الجمهورِ الغفير، ويفتح الطريقَ، لئلّا يزدحمَ السير، وتدبّ العجقةُ، وآنذاك يأتي القطارُ، ويسأل عن تذكرتكَ، ويجدكَ جالسًا متأهّبًا عاقدًا ربطةَ العنق ناعسًا متّكئًا، وعلى محيّاكَ علامةُ الرضا والبحبوحةِ والأمان.

لا أقرّظكَ، لا أمدحكَ، لكنّكَ كلّما اقتربتَ، كلّما ابتعدتَ، كلّما عزفتَ، كلّما كتبتَ، كلّما أومأتَ بيدكَ، بالحبر، بالإشارة، وترأّستَ الأوركسترا، عثرتُ عليكَ في الحفلة، وأنتَ الحفلةُ، ووجدتُكَ خارجَ التعب، خارجَ التفسيرِ الضئيل. كالرائي. كالرئيسِ. كالمديرِ. كأمِّ العروسِ. كالعريسِ. كالعرسِ برمّته. كالمجمعِ كلّه. مملوءًا بالزغرداتِ والزلاغيط، وعليكَ يُرَشّ الأرزُّ، وتتهادى الهتافاتُ، وصنوفُ الورد والليلك، وماء الكولونيا، وحولكَ الدبكةُ، والفساتينُ المتموّجةُ بالأنسِ والدفقِ والحلال. وأنتَ، في تلك الساعةِ، يعنّ على بالكَ أنْ تطالبَ آنذاك بالدفترِ، والقلم، وأنْ تلتقطَ النوطةَ الفارّة، فتركّز على النوطة، على الإيقاع، وتختار التعبيرَ المناسبَ للرقصةِ الطائشةِ السكرى، لتكونَ كمثلِ القربانةِ المغموسةِ باللذّةِ بالانتشاءِ والشبعِ الرضيّ. وآنذاك تبتسم، تغمض عينيكَ، تقهقه، تفقع من الضحك، ويصفّق لكَ المتحلّقون، ويرفعون البرانيطَ، ويشربون النخبَ، ويلقون التحيّةَ، ويسلّمون عليكَ باليد، بالقبلات، ويرشّون العطور، ولا يبخلون بالأجراسِ وأناشيدِ الصداح.

لا أقرّظكَ، لا أمدحكَ، لكنّنا لم نعِشْ حياتَنا، ولبنانَنا، يا عاصي. عشنا لبنانَكَ، عشنا الأسطورةَ، عشنا الحياةَ التي اقترحتَها لنا. ونحن أخذناها منكَ، أخذناها عنكَ، بدون تعديلٍ يُذكَر. أخذناها باعتبارها سماءً، باعتبارها أرضًا، باعتبارها أعجوبةً، باعتبارها هديّةً، وولادةً جديدة. وأخذناها باعتبارها لجوءًا، ووطنًا، وتختًا للهدهدة. وأخذناها بقلوبٍ عامرة، ببساتينَ، وفراديسَ، كمثلِ غيومٍ سابحاتٍ في اللغة، في الكلمات. وكم أخذناها باعتبارها غفلةً، نسيانًا، هروبًا. ولم نعرف كيف نحفظها، كيف نصونها، كيف نخبّئها بالرموشِ، وفي الخفقاتِ الضنينة.

كان لبنانكَ، أنتَ. كانت حياتكَ، أنتَ. وأخذناها عنكَ، كمثلِ أحدهم عندما يعرض عليكَ الحبَّ بدلَ البغض، الحلمَ بدلَ الواقع، الأملَ بدلَ اليأس، السلامَ بدلَ الحرب، الجمالَ بدلَ البشاعة، الغبطةَ بدلَ الألم، أو يقظةً تكون ضدَّ كل ما يعتري الحياة من موتٍ وتهلكات.

وأحببناه، لبنانكَ. وأحببناها، أسطورتكَ، حياتكَ، ونسينا من أجلها، أو نسينا بسببها، الحياة. وعندما تذكّرناها، حياتنا، لنعيشها، كانت قد سُرِقتْ منّا على مرأى منّا، وعلى مسمعٍ، ومن العيونِ اللئيمةِ والقلوبِ اللئيمةِ والأيدي اللئيمة.

وتركنا لبنان يهرب منّا. وتركنا الحياةَ تُسرَق منّا، تُغتَصَب. وهيهات أنْ يعودَ لبنان، هيهات أنْ تعودَ الحياةُ لنا لنحياها، لنولدَ من أجلها، كما تولد الآن أنتَ. وتحيا.

ولبنانُ يُستعاد. تأكيدًا. والحياةُ تُستعاد لا بالبهورةِ، بل بالأملِ، بل بالحلمِ، بل انتزاعًا، وبالشعرِ، وبالموسيقى، وبالفنِّ، وبالحبِّ، وبالامّحاء، وبالوعرِ، وبالكراماتِ، بل بجبالِ الصوّان بمثيلاتِها. وهذه أعجوبةٌ، بل حقيقةٌ، ولا بدّ منها، لإعادةِ اجتراحِ لبنانَ، لإعادةِ اجتراحِ الحياةِ، وتوليدِ الحياةِ، حياتِنا والبلاد.

اخترنا لك