ماكرون ورحلة البحث عن الدور الفرنسي الضائع

بقلم جوزيف حبيب

أدّت فرنسا عبر التاريخ دوراً محوريّاً في أوروبا والعالم. بدأت تبرز مكانة الكيان المعروف اليوم بفرنسا مع الملك المسيحي كلوفيس الأوّل، أوّل ملك يوحّد قبائل الفرنكيين تحت سلطته عام 481 ميلادياً، مروراً بالملك شارلمان الذي تعاظم نفوذه ليُصبح لاحقاً الأمبراطور الروماني، والملك لويس الرابع والملك فرانسوا الأوّل والملك لويس الرابع عشر والملك لويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا قبل اندلاع الثورة الفرنسيّة التي غيّرت وجه فرنسا وكانت لها تداعيات جيوسياسيّة على كيانات عدّة، فضلاً عن ارتداداتها الثقافيّة والقيميّة المستمرّة إلى يومنا هذا، وصولاً بالطبع إلى الأمبراطور نابليون بونابرت الذي اشتهر بحملاته العسكريّة.

وبعدما وصل الدور الفرنسي الدولي إلى ذروته السياسيّة والثقافيّة واللغويّة والعسكريّة… مع توسّع الأراضي الواقعة تحت السيطرة الفرنسيّة عبر مستعمراتها حول العالم، بدأ يخفت نور “العظمة الفرنسيّة” شيئاً فشيئاً، مع الحرب العالميّة الأولى وأعبائها وذيولها وانعكاساتها، لتأتي “الضربة القاضية” مع اندلاع الحرب العالميّة الثانية عندما وجّه الجيش النازي الألماني أكبر إهانة تاريخيّة لـ”الديك الفرنسي” حين اجتاح البلاد واحتلّها. ولم يكن يومها للفرنسيين سوى الصديق الأميركي القوي الذي أنقذهم عسكريّاً من براثن الألمان في الحرب العالميّة الثانية، كما فعل إبّان الحرب الأولى، ليعود ويُقدّم يد العون الماليّة مع “خطّة مارشال” الشهيرة لإعادة إعمار أوروبا.

خرجت فرنسا الجريحة من الحرب العالميّة الثانية منهكة ومستنزفة سياسيّاً وعسكريّاً وصناعيّاً واقتصاديّاً وماليّاً… وعلى الرغم من محاولة باريس الانتفاض لـ”كرامتها الوطنيّة” والتمايز بين الحين والآخر عن حلفائها، تجسّد ذلك خصوصاً عندما سحب الرئيس شارل ديغول بلاده من القيادة العسكريّة الموحّدة لـ”حلف شمال الأطلسي” عام 1966، من دون مغادرة الناتو بشكل كامل، إلّا أن صانعي القرار وطبّاخيه في قصر الإليزيه والـ”كي دورسيه” يُدركون يقيناً أن الحقبة الذهبيّة للنفوذ الفرنسي العالمي قد ولّت. لكنّ هذا التراجع على الساحة الدوليّة ليس حجّة للجلوس على الهامش بالنسبة إليهم، إنّما محفّز لحجز مقعد أساسي للبلاد حول “طاولة الكبار” في النظام العالمي الجديد قيد التبلور.

وهذا “التمايز الفرنسي” عن الحلفاء ومشاكستهم في أكثر من قضيّة دوليّة شائكة، هو بالذات النهج الذي يعتمده الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون في رحلته النشطة المحفوفة بالمخاطر، بحثاً عن دور فرنسي ضائع في دهاليز “المكاتب التاريخيّة” لمدن “القارة العجوز” وجامعاتها العريقة. الأزمات تُطوّق ماكرون في ولايته الثانية والأخيرة من كلّ حدب وصوب، داخليّاً وخارجيّاً. فالاحتجاجات العنيفة على إصلاح نظام التقاعد هزّت أروقة الإليزيه، لا سيّما أن استطلاعات الرأي تُظهر تراجعاً هائلاً في شعبيّة الرئيس الفرنسي، الذي فتح على نفسه “معارك” سياسيّة وديبلوماسيّة على جبهات خارجيّة متعدّدة، يبدو أنّ نتائجها لا تصبّ لصالحه حتّى اللحظة.

يكاد ماكرون لا يُفوّت مناسبة إلّا ويتحدّث فيها عن “الاستقلال الاستراتيجي” الأوروبي، وتقليل اعتماد “القارة العجوز” على قدرات “العم سام” وإمكاناته الهائلة. حتّى أنّه أثار غضباً لدى حلفاء بلاده على ضفّتَي الأطلسي، لم يُعبّر كثيرون عنه علانيّة واكتفوا بإيصال رسائلهم الغاضبة عبر القنوات الديبلوماسيّة، حين دعا أوروبا عقب زيارة له إلى الصين أوائل شهر نيسان الماضي، إلى عدم الدخول في منطق الكتلة مقابل الكتلة، مطالباً الأوروبّيين بألّا يكونوا تابعين للولايات المتحدة أو للصين في ما يتعلّق بتايوان.

صحيح أن قيام كيان أوروبي أكثر استقلاليّة وفعاليّة، وولادة جيش أوروبي موحّد، وفرض أوروبا نفسها كـ”قطب ثالث” مستقبلاً إلى جانب أميركا والصين، تصبّ جميعها في مصلحة النظام الدولي الجديد، بيد أن الحسابات المصلحيّة الواقعيّة لا تسمح للأوروبّيين بالاستغناء عن الوجود العسكري الأميركي الاستراتيجي لديهم والذي تعزّز بعد الحرب الروسيّة ضدّ أوكرانيا تحت عباءة الناتو. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا تقبل الدول الأوروبّية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق أو حلف وارسو، والمعروفة اليوم بمجموعة “بوخارست 9″، والتي باتت تُشكّل الجناح الشرقي للناتو، بالتخلّي عن “المظلّة الأميركيّة” على الإطلاق تحت شعارات وعناوين تعتبرها غير قابلة للتطبيق، أقلّه في المدى المنظور.

وما يُثير الشكوك حول القرار الأوروبي الموحّد والمستقلّ الذي تسعى إليه باريس، أن الأخيرة لا تلبث أن تخرج من خلاف ديبلوماسي مع إحدى الدول الأوروبّية حتّى تدخل في خلاف جديد مع شريك أوروبي آخر، كما حصل أخيراً مع روما، في وقت تُعاني فيه الديبلوماسيّة الفرنسيّة في ساحات نفوذها التقليديّة خارج حدود القارة الأوروبّية، لا سيّما في أفريقيا حيث اضطرّت القوات الفرنسيّة إلى الانسحاب من مالي وبوركينا فاسو اللتَين ساءت علاقاتهما بباريس. وتحاول فرنسا تعويض هذه النكسة بتعزيز حضورها في النيجر وتشاد وبالاندفاع أكثر في اتجاه دول وسط “القارة السمراء” والساحل وخليج غينيا، عبر تكثيف ماكرون رحلاته إلى المنطقة التي تشهد حراكاً صينيّاً وروسيّاً مكثّفاً، إضافةً إلى مراجعة واشنطن سياساتها في أفريقيا وتفعيلها.

كما تُحاول فرنسا ومعها أوروبا لعب دور في منطقة القوقاز عبر دخولها على خطّ الصراع الأرميني – الأذربيجاني، وسط مزاحمة ديبلوماسيّة مع واشنطن وموسكو على هذا الملف الحسّاس، فيما تلقّت باريس آخر الصفعات الديبلوماسيّة في جهودها السياسيّة الخارجيّة الدؤوبة، في لبنان، مع تعثّر مبادرتها الرئاسيّة المتقاطعة مع صفقات مفترضة تؤمّن مصالح شركات فرنسيّة، على وقع دخول واشنطن والرياض على الخطّ وفرملتهما الاندفاعة الفرنسيّة وإجهاضهما مبدئيّاً صفقة فرنجيّة – سلام، التسوية التي ضربت ما تبقّى من “علاقة تاريخيّة” تجمع فرنسا مع الموارنة، كانت تتّجه أصلاً في مسار انحداري في العقود الأخيرة.

فرنسا ما زالت قبلة عشّاق الحرّية والساعين نحو حياة أفضل، بينما تزداد مشكلاتها الداخليّة وتطرح جذور “صراعاتها” الحضاريّة والثقافيّة العميقة تساؤلات جدّية حول مستقبل الجمهوريّة وهويّتها. وعلى خطّ آخر، تنتظرها تحدّيات دوليّة ستفرض نفسها بقوّة عليها قريباً وستُحتّم على باريس تحديد دفّة شراع سفينتها السياسيّة والديبلوماسيّة والعسكريّة. فهل تستطيع فرنسا وشركاؤها الأوروبّيون تكوين نواة قوّة عسكريّة أوروبّية تتمكّن من التعامل مع حالات الطوارئ الداهمة على مصالح الأوروبّيين وأمنهم القومي، وصولاً ربّما إلى إنشاء نوع من اتحاد فدرالي أوروبي أكثر تماسكاً ووحدة وقوّة من الاتحاد الكونفدرالي الحالي، أم أن الخلافات بين “الأمم الأوروبّية” واستمرار الحاجة إلى عضلات الولايات المتحدة المفتولة، أقوى من طموحات منظّري “الاستقلال الاستراتيجي” الأوروبي؟

اخترنا لك