ما النفع من سقوط المُحاسب من دون آل كابوني ؟

بقلم د. مصطفى علوش

«يـــا تـــونــس الخــضــراء هــذا عــالم

يــــثــــري بــــه الأمــــي والنـــصـــاب

أتــكــلم الفــصــحــى أمــام عـشـيـرتـي

وأعـــيـــد لكـــن مـــا هـــنـــاك جــواب

مـن أين أدخـل فـي القـصـيدة يا ترى

والشـــمـــس فـــوق رؤوســـنـــا ســرداب

اللاهــثــون عــلى هــوامــش عــمــرنــا

ســيــان إن حــضــروا وإن هــمُ غـابـوا

إن جــاء كــافــور فــكــم مــن حــاكــم

قـــهـــر الشــعـوب وتــاجــه قــبــقــاب»

(نزار قباني)

لا يوجد فساد إجرامي في أي مكان في العالم من دون جذور وتشعّبات وتواطؤ واسع النطاق على مختلف المستويات، في الأمن والسلطة والقضاء، والأهم في الشعب. أحد أهم الأمثلة كان إمبراطورية بابلو إسكوبار في كولومبيا، فالكثيرون من أبناء مدينته «مدلين» ما زالوا حتى اليوم يعتبرونه قديساً، وتحوّل ضريحه إلى معلم سياحي هناك. المثل الآخر هو المافيا الإيطالية والروسية، وغيرها من المافيات الوطنية والدولية، فكلّها متحالفة مع السلطة وجزء من الأمن وجزء من القضاء وجزء من الشعب، إلى أن تأتي لحظة السقوط بظل اختلال التوازنات التي جعلت من هذه المنظومات قابلة للاستمرار.

أمّا مافيات الحكم في العالم الثالث، فإشكالاتها هي أنّ الدولة بأجمعها تصبح منظمة مافيا بكامل أجهزتها، وأحياناً بمعظم مواطنيها. وغالباً ما تأخذ هذه المنظومة قسماً من مواطنيها رهائن تبتزّ العالم بهم، أكان بالغازات السامة أم البراميل المتفجرة أم الإرهاب أم الحماية منه أم التهجير… يكفي أن نقول إنّ قوة منظومات المافيا الرسمية تنبع من كل ما سبق، وهي قادرة على الاستمرار حتى بعد انهيار الدولة المسخ التي تتربّع على ناصيتها، لمجرّد أن بعض العالم يريد أن «يبعد عن الشر ويغنّي له».

قصة آل كابوني في شيكاغو مشهورة، وقصة سقوطه مع منظومته الجبّارة أتت من خلال استهداف مُحاسبه ليتمّ اتهامه بجرائم التهرّب الضريبي، بعدما تمكّن الفساد المعمّم من حمايته من جرائم القتل والتهريب وإنشاء العصابات الإجرامية. هنا، أدّى سقوط المحاسب إلى سلسلة من الاعترافات أدخلت آل كابوني السجن الشهير قبالة ساحل «سان فرنسيسكو» المعروف بجزيرة «ألكاتراز»، حيث مات من دون أن تنجح محاولات تهريبه من قبل المنظومة المتحالفة معه.

أما وقد صدرت مذكرة الإنتربول بحق أمين صندوق السلطة في لبنان، فالأمل هو أن يتمّ خنق المنظومة من خلال فضحها بالأرقام والتفاصيل، حتى لا يكون أي من أركانها قادراً على تصنّع العفّة أو البراءة من دم الصدّيق. فالواضح هو أنّ نهب المال العام، الذي أدّى إلى نهب ودائع الناس، جرى بالتوافق الكامل بين أركان منظومة السلطة من جهة، وأمين صندوق المال العام الذي يبدو حتى الآن غير أمين.

وهنا، لا أحاول سحب السكين لأنّ «البقرة» وقعت، فأشارك بحفلة الذبح مع شركاء «البقرة» السابقين الذين يأملون في أنّه باختفاء «البقرة»، ستختفي مشاركتهم في النهب ويهربون، كالعادة، من المساءلة والمحاسبة لأنهم «يسرقون حق طائفتهم وجماعتهم ومستضعفيهم» من الدولة، أي من المال العام، وهو بالمحصّلة مدّخرات اللبنانيين. يعني أن العطاءات والريعيات التي منّ عليها عضو المنظومة على عشيرته هي من مالهم، أو مال جارهم، أو مال نظيرهم!

هذا للأسف ما لم يفهمه حتى هذه اللحظة الكثيرون ممن استفادوا من الريعية وما زالوا متمسّكين بعضو المنظومة خاصتهم لكونه سيؤمن لهم استمرار الريعية إلى ما شاء الله. هؤلاء لا يعلمون أنّ المال الذي كان يأتيهم من دون أن يعملوا بالمقابل، هو بالفعل مال يسرقونه من جارهم الذي أودع جنى عمره وتقاعده في عهدة أمين صندوق هو شريك لأعضاء المنظومة. ما لا يعلمونه أيضاً هو أن الصندوق فارغ ولم يعد هناك في العالم، القريب منه والبعيد، من هو جاهز لملء الصندوق كرمى لعيون منظومة تنهب نصف ما تمنحه لأتباعها المتمترسين خلف طوائفهم وأشباه أحزابهم وتهافت زعاماتهم، وتحتفظ بالنصف الباقي.

في وقت ما ليس ببعيد، سألت مسؤولاً، ظننته سيفهم ما أقول، ما يلي: «لا يمكن أن تكون أنت في موقع المسؤولية في حين أنّ سرقة المال العام، بأشكاله المختلفة، تتم تحت نظرك. أنت تقول إنك بريء من النهب مع أنك مسؤول». فأجاب: «هم يسرقون أما أنا فمالي حلال!» فقلت: «أنت مشارك في السرقة لمجرد أنك مسؤول، وإلا فإنّك اشتريت السلطة بالتغاضي عن السارقين». لم يعجبه بالطبع هذا الكلام، وأظن أنني بكلامي صرت بصف المنبوذين، غير القادرين على التأقلم مع ضروريات السلطة.

أمين الصندوق على حق بقوله «اسألوا السياسيين»، فهو بالنهاية موظف في الدولة كأمين صندوق، فإن لم يكن شريكاً في النهب، فقد يكون رهينة، أو أنه مثل المسؤول الذي سألته في الفقرة السابقة، يشتري المنصب بالتغطية على المنظومة. وحقنا نحن أن نسأل عن الهندسات المالية للبنوك الخاصة، وعن المال المهرّب وعن سوء الأمانة لأمين صندوق هو موظف عند المواطنين الذين كانوا يدفعون له راتبه من مالهم ليكون أميناً وليس شريكاً مع المنظومة. أظن من هنا، أنّ المخرج الوحيد، غير النفي الطوعي كخارج عن القانون، هو أن يقدم على صفقة تمنحه الحصانة يقول فيها ما قاله محاسب آل كابوني ليضعه في السجن.

اخترنا لك