الولايات اللبنانية المتحدة في نظام فدرالي جيوسوسيولوجي

بقلم د. ميشال الشماعي

لا يمكن الاستخفاف لهذه الدّرجة بالاشكاليّة الوطنيّة التي نواجهها في لبنان منذ إعلان لبنان الكبير في الأوّل من أيلول 1920. وللتذكير، لا يمكن القفز فوق واقعة اجتماع وادي الحجير يوم السبت الواقع فيه 24 نيسان 1920 بهدف إطلاق المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي الداعم وقتذاك لفكرة قيام لبنان الكبير، مقابل هدف واضح لهذا المؤتمر وهو دعم الحكم العربي الوطني.

وتجدر الإشارة إلى انّ مفتي جبل عامل السيّد “عبد الحسين شرف الدين” هو الذي دعا إلى هذا المؤتمر وضمّ مجموعة ثوّار جبل عامل، ومن أبرز الوجوه التي حضرت آنذاك أدهم خنجر الصعبي إبن بلدة المروانية وصادق حمزة الفاعور إبن بلدة دبعل في قضاء صور. وهاتان الشخصيّتان كانتا بمثابة الذراع المسؤولة عن تنفيذ مطالب دمشق التي نظّمت وقتها مجموعات مسلّحة تحت مسمّى الجيش العربي وعيّن ” محمود الفاعور” أميرًا على منطقة الجنوب، وطلب منه تنظيم مجموعات مسلّحة أوكلها إلى أدهم خنجر وصادق الفاعور.

وأبرز ما أتى عليه شرف الدين في كلمته في هذا المؤتمر هو الدعوة إلى الوحدة الوطنيّة واحترام الطوائف. وذهب السيد عبد الحسين شرف الدين بعدما ألقى خطبته الرنانة في هذا المؤتمر مباشرة إلى دمشق.

وفيما كان كامل بيك الأسعد كان مجتمعًا مع الكولونيل نيجر في النبطية لتنظيم حرس مدني بالتنسيق مع الفرنسيين لوقف أعمال هذه العصابات، تم تنفيذ مجزرة عين إبل في يوم الاجتماع نفسه، أي في الخامس من أيار 1920 لمنع نجاح هذه العملية. واتت هذه المجزرة لتسقط صفة المقاومة الوطنية التي قادها أدهم خنجر لأنّها نتهت بمأساة طائفيّة. وذلك كلّه تماشيًا مع المشروع العاملي الذي قاده أدهم خنجر وصادق الفاعور بالالتحاق بالمملكة السوريّة وليس بلبنان الكيان المستقلّ. على حدّ ما أشار الدّكتور منذر جابر في كتابه ” الكيان السياسي لجبل عامل قبل 1920″. إضافةً إلى التأريخ الحقيقي لهذه المرحلة الذي ورد في كتاب وضّاح شرارة ” الأمّة القلقة” الذي يستند فيه إلى مذكّرات الشيخين أحمد رضا وسليمان ضاهر.

مقابل هذه الأحداث برزت الحركة الدستوريّة التي أوصلت الرئيس بشارة الخوري بحلفه مع الرئيس رياض الصلح ترجمة لمشروع لبنان الكبير إلى إعلان الاستقلال والميثاق الوطني. وذلك أتى كنتيجة لدستور ميشال شيحا. إلى أن انفجر الصراع السني – الماروني على أثر اتّفاق القاهرة 1969 مقابل اعتبار المسلمين السنّة القضيّة الفلسطينيّة قضيّتهم الأمّ، وصارت بالنسبة إليهم أولويّة كيانيّة تفوق أولويّة الوطن، والكيانيّة اللبنانيّة. وهذا ما حذّر منه إميل إدّه والكتلاويّين والمؤرّخ جواد بولس الذين رؤوا قصور الشعب اللبناني في تكوين هويّة وطنيّة مشتَرَكَة، لأنّ هذا الفريق كان أكثر رؤيويّةً انطلاقًا من واقع المجتمع اللبناني.

ونتيجة هذا الخلاف المجتمعي نتيجة التركيبة المجتمعيّة التعدّديّة تمّ طرح الفدراليّة كمشروع اتّحاديّ للحفاظ على حريّة المجموعات المجتمعيّة المختلفة من حيث الهويّة المجتمعيّة والتي تريد أن تتحد في هويّة وطنيّة واحدة. لا سيّما في سبعينيّات القرن الماضي. والخطأ الذي يتمّ تسويقه في الوسط السياسي هو أنّ الطرح الفدرالي إنّما يطرح من قبل المسيحيين متى فقدوا قدرتهم على التحكّم بلبنان الكبير.

لكن الواقع مغاير تمامًا. يجب الاعتراف اليوم، قبل فوات الأوان، أنّ الاشكاليّة المجتمعيّة اللبنانيّة، لا تعالج بالانصهار الهويّاتي، بل باحترام هذه التعدديّة الهويّاتيّة المجتمعيّة التي هي علّة وجود الكيانيّة اللبنانيّة.

لذلك، البحث في أيّ شكل للنظام السياسي إن لم ينطلق من واقع هذه الهويّة المجتمعيّة هو غير قابل للحياة. ولعلّ هذا ما ساهم في تثبيته أكثر فأكثر هو تلك الثورة التكنولوجيّة في عالم التواصل والاتّصال التي جعلت من العالم قرية كونيّة واحدة. وهذا ما أسقط فكرة القوميّات التي ثبت فشلها عبر التاريخ، إضافة إلى سقوط الأنظمة التوتاليتاريّة والديكتاتوريّة تباعًا عبر التاريخ. وما لم يسقط بعد من هذه الأنظمة فهو سيسقط حتمًا لأنّ الشعب أراد الحياة وأعلن ذلك، وهو يعمل لذلك.

بناء عليه، لا حياة لأيّ وطن يقوم على قاعدة قوميّة أو عنصريّة. الحياة فقط تكون بالتنوّع لأنّ مبدأ الخلق هو على هذا الأساس. لذلك، تأتي النظم اللامركزيّة والفدراليّة وحتّى الكونفدراليّة، كحلّ لتحقيق الاستدامة الوطنيّة في الدّول المركبة تعدّديًّا. وذلك لأنّ هذا النوع من الأنظمة هو كفيل بتحديد المسافة الآمنة بين المجموعات الحضاريّة المختلفة الهويّة الاجتماعيّة التي تضمن سلامتها وسلامة مجاوِريها.

وهذا ما يسمح لكلّ مجموعة بعيش قناعاتها من دون أن تسعى إلى فرضها على غيرها. وذلك في إطار وحدويّ وطنيّ جامعٍ، بغضّ النّظر عن المساحات الجغرافيّة أو المخاطر الديمغرافيّة؛ لأنّه مهما ازداد العدد لأيّ مجموعة في ولايتها فهي لها قواعدها البنيويّة وأسسها المجتمعيّة الحضاريّة المستقلّة عن غيرها من المجموعات التي تختلف عنها في غير ولايات، من دون أن تؤثّر في صيرورة وجودها وسيرورة استمرارها.

ولا يمكن لأيّ نظام سياسي أن ينطلق بعيدًا من الواقع المجتمعي. فالفدراليّة في سويسرا تختلف عن تلك الموجودة في الولايات المتحدة أو في بلجيكا أو غيرها من البلدان. فلكلّ بلد خصوصيّته المجتمعيّة التي وحدها تفرض طبيعة النظام السياسي فيه. وبما أنّ الجغرافية والاثنيّة الدينيّة تحكم الواقع اللبناني فلا يمكن لأيّ نظام سياسي ألا ينطلق من هذين البعدين: الجغرافي والمجتمعي.

لذلك قد يكون الحلّ الأمثل للنظام السياسي اللبناني في نظام “فدرالي جيوسوسيولوجي” ينطلق من الواقع المجتمعي مراعيًا التموضع الجغرافي للمجموعات الحضاريّة ليستطيع هذا النظام تأمين حقوق هذه المجموعات وإبراز شخصيّتها الكيانيّة تعزيزًا لمسارها الخاص، وتحقيقًا لعمليّة سلامٍ مجتمعيٍّ مستدامٍ بين هذه المجتمعات، في إطار وطني وحدويّ يتجاوز أضحوكة الانصهار ويتخطى المشاريع العابرة للحدود تحت ذرائع إيديولوجيّة أو غيرها.

اخترنا لك