مداخلتان للراحل محسن إبراهيم حول القضية الفلسطينية
مواجهة العدوان الدائم على قطاع غزة بالقرار الوطني المستقل
“بيروت الحرية “ 3 حزيران 2023
المداخلتان اللتان تنشرهما الآن “بيروت الحرية” على موقعها الالكتروني قدمهما الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي الرفيق الراحل محسن ابراهيم في 17 تموز و7 آب من العام 2014. وأهمية المداخلتين تنبع من أنهما تأتيان في الذكرى الثالثة لرحيله وهما غير منشورتين قبلاً، إلا أن الأكثر أهمية من ذلك أنهما تتناولان العدوان الاسرائيلي الذي تعرض له قطاع ومدينة ومخيمات غزة في العام 2014 وقاد إلى صمود سياسي فلسطيني رغم الكلفة الباهظة التي دفعها الشعب في الارواح والممتلكات والمرافق، التي ما تزال تعاني الخراب أصلاً من اعتداءات سابقة. يقدم الرفيق الراحل في المداخلتين قراءة متقدمة لتلك اللحظة مع كل ما رافقها من مواقف سواء على الصعيد الفلسطيني نفسه، أو في المدى العربي والاقليمي، ناهيك بالدولي ممثلاً بموقفي الاتحاد الاوروبي والاميركي. كما إنه يعرِّج بسرعة على الدور الذي لعبه في عملية تنوير الموقف الفلسطيني دفاعاً عن الشعب الفلسطيني وعن القضية في وجه الهجمة الصهيونية الشرسة، من مدخل الحفاظ على القرار الوطني المستقل في مواجهة إلحاقه بهذا الطرف أو ذاك لعرضه في بازار المساومات.
بين العام 2014 والعام 2023 سالت دماء كثيرة في مجرى الصراع، وقبلها … وسيكون لها ما بعدها بطبيعة الحال. ولعل ما عاشته غزة من هجوم بربري آخر عبر آلة الحرب الاسرائيلية المتفوقة، ومعها ما تشهده الضفة الغربية المحتلة من عنصرية سافرة تتجلى في حملات اغتيال وتصفية المناضلين وهجمة استيطانية واعتقالات واستباحة أحياء القدس القديمة خصوصاً هدم المنازل وتجريف الاراضي الزراعية وتضييق على حركة الانتقال بين القرى والبلدات والمناطق … كل هذا وسواه مجرد نماذج عن الممارسة الصهيونية التي يتشارك في تنفيذها اليمين الصهيوني بجناحيه الديني وغير الديني. وعليه يعيش الفلسطينيون وقائع محرقة لا تطفيء نيرانها الصواريخ التي تنطلق نحو مستوطنات غلاف غزة، أو حتى على تل ابيب، ما دام المشروع الاستيطاني الصهيوني ينطلق من مسلماته التوراتية التي تنكر وجود الشعب الفلسطيني، أو تضعه في خدمة “السيد” الاسرائيلي الذي تتجاوز طموحاته أرض فلسطين إلى كل أرض عربية. من هذا المنطلق يرى الرفيق الراحل في الشعب الفلسطيني خط الدفاع الآول، الذي يتجاوز حدود فلسطين التاريخية إلى المنطقة العربية. وهو أمر لا يغيِّر فيه التطبيع أو سواه من علاقات متبادلة.
قبل أن نختم هذه المقدمة القصيرة والنشر تكريماً للرفيق القائد في ذكرى غيابه الثالثة، نشير إلى أن بين تاريخي المداخلتين وبعدهما شهد المكتب التنفيذي لمنظمة العمل الشيوعي مناقشات مستفيضة تناولت شتى مفاصل الوضع الفلسطيني في الضفة والقطاع والسلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية وفتح وحماس ومدى قدرات الشعب الفلسطيني على المواجهة، في ظل الوضع العربي المفكك، ومعه السياسات الايرانية والقطرية والتركية ومضاعفاتها السلبية على قدرات المواجهة. وقد آثرنا الإكتفاء بالمداخلتين عن النقاشات التي رافقتهما وتبعتهما واستنزفت أسابيع من الجهد والمتابعة.
المداخلة الآولى 17 تموز 2014 : العدوان على غزة
القضية الفلسطينية بالتعريف والنشأة لا تستطيع أن تستقر في حضن مذهب أو طائفة أو ملحق فاقد لقراره الوطني المستقل. وهذا الآن ليس أمر بسيطاً في هذه اللحظة الدراماتيكية حيث التطييف والتفكك الفئوي سيد الموقف، وسط هذه المعركة التي نخوضها الآن اياً كانت الثغرات. الشعب الفلسطيني لن يسمح لأحد ان يزوِّر له قضيته التي يدافع عنها منذ قرن، وبالتالي جعلها سلعة قابلة للصرف والتداول لحسابات خاصة.
الشعب الفلسطيني إلى أين؟ القضية الفلسطينية والحركة الوطنية والبرنامج الوطني كيف يتجدد؟. هل تسمح المعطيات القائمة بأمل آخر في أن تقوم بما يجب ان تكون عليه تجاه نفسها، وتجاه المنطقة؟ وهي تشترك مع قضاياها. على ماذا ستستقر وما هي اولوياتها ؟ الحدث الفلسطيني يجعل النقاش في البرنامج والاولويات والأفق الفلسطيني مسألة حاسمة، وليسست مجرد مسألة فكرية.
النقاش المفروض علينا بدءاً من الاجتماع المقبل، لا يتحدد بتخصيص جلسة واحدة فقط، بل حملة من المتابعة. العدوان الحاصل على غزة ليس العدوان الروتيني، هو عدوان تريده اسرائيل فاصلاً، ولا يستطيع الفلسطينيون الاّ أن يعبتروه حدثاً فاصلاً. الآن الاختبار كم تستطيع البنية الفلسطينية الصمود، وتراكم رغم الصعوبات الهائلة، وتعلن وتثبت بالممارسة أنه على الرغم من كل الآلة الحربية التي تملكها اسرائيل، والاحتشاد الدولي حولها بدليل المواقف الاوروبية الاخيرة، وما تفرضه عليها من واجب الصمود. وهو ما دفع بأبي مازن أن يرمي بثقله كي يتوازن الوضع، مما جعل البعض يري فقط أن اسرائيل تدافع عن نفسها، ولا يرى المحنة التي يعيشها الفلسطينيون دون اعتبار للمقدمات المعروفة. (المواقف الفرنسية من ديغول الى هولاند). الآن اللوحة كما تشاهدون هذا من ناحية عامة. من ناحية الأبعاد. لا شك أن هذه المواجهة المتجددة مع اسرائيل وفق هذه الشروط المجحفة والقاسية، مندلعة شئنا أم لم نشأ، وعلينا الاستجابة لتحدياتها. لأنه ربما يكون عند النقاش، الخلاصة هي كيف يمكن إبقاء ما اعتمد من تسويات على قيد الحياة في ظل افق سياسي مسدود خصوصاً. لا ياسر عرفات ولا محمود عباس لعبا دور حكواتية. هذه مواجهات لها تاريخ وقضايا، في ما نجحت فيه وما قصرت عنه. ومهما قيل في اوسلو، هذه النقلة للحركة الوطنية الفلسطينية جعلها تستقر داخل ارضها، وباتت مشارِكة في تقرير المصير، بحيث أن مراسيم اسحاق شامير بإنشاء روابط القرى والبلدات أرادها أن تعبر عن التزوير في تمثيل الشعب الفلسطيني. الصراع في الميدان مستمر، انطباعي الخاص الآن، ولا أظن أننا سنتوقف امام القضية الفلسطينية في نسختها المأزومة، وأنا شاهد على مصائرها ومساراتها كأني اناقش في الملف اللبناني. التشابه في العناوين لا يعطي تشابهاً في المضامين.
يبدو الوضع حالياً وكأن زلزالاً حصل، وعند النقاش الملموس نستطيع أن نستكشف أكثر من منحى يجعل هذا الحدث فاصل فلسطينياً واسرائيلياً، وستترتب عليه مسارات لم تكن تخطر في بال اصحاب القرار. بين بدء الحدث وبينه الآن أهل فلسطين، اجازف بالقول إن 80% منهم هم مع الكفاح المسلح، هذا ليس استخلاصاً مستقراً ولا يُبنى عليه. ولكن مرة اخرى هذا له اسم ويُطرح الآن ليس بوصفه تخريجة لفظية.. لم يناقش أحد في جدوى هذه الصواريخ. من هو مثلنا يعرفون الفارق بين الحقيقي والزائف، المهم أن فلسطين تعطينا مدخل النقاش.
لا يمكن اعتبار أن المعطيات صارت واضحة. الآن هناك اكثر من بُعد من أبعاد المعركة الرئيسية. القرار الوطني الفلسطيني على بساط البحث، وكذلك الهوية الموحدة، ومعها شياطين المشاريع الرامية إلى احتواء السجال بين مطلب الدولة الفلسطينية ومطلب الإمارة. والأخيرة لها أنصارها. في التحالفات التي تحاول شق الفلسطينيين بين جناحين، جناح منظمة التحرير الفلسطينية، وجناح حماس ومن معها. نحن نتعاطى مع دور حماس الراهن في هذا الانفجار الكبير للشعبين الساكنين على ارض فلسطين. إنه يشابه كيف أنه في حرب 2006 عندما جازف حزب الله وأدخلنا في حرب غير مهيأين لها، واعترف نصرالله بذلك عندما قال: لو كنت اعلم. يومها قلت أن مقياس الصواب لدينا هو الآتي: الكارثة التي يمكن أن تصيبنا هي اذا انهزم حزب الله وانتصرت اسرائيل. وقد ثبت أن ذلك كان حكماً صائباً، بينما اجتمعت 14 آذار لتأخذ تعليمات من وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس. شغلي الشاغل الآن هو الحديث مع أبي مازن، والمساهمة في بلورة الخيار السياسي الفلسطيني، والدق على ابواب المجتمع الدولي بكل قوة ودون كلل أو ملل.
بالأمس وهو في طريقه إلى القاهرة تحدثت معه لدى مروره في عمّان حول محنة الفلسطينيين، حيث يتشكل محور دول لديها حلم مرة اخرى قوامه استخدام القضية الفلسطينية سلعة للمقايضة، مفتوحة بطبيعتها على زج فلسطين في ما رافق الحراك العربي. وهو مشروع ترويج لاسلام سياسي يغيِّر هوية المنطقة، ويجعل منها سلعة قابلة للبيع والشراء. الشعب الفلسطيني يواكب هذا الاشتباك المسلح، وفي وجهه قطر وتلفزيونها وتركيا. وعندما يقال قطر وتركيا يجب الاستكمال إلى من وراءهما بما يعبر عنه ذلك من تحويل فلسطين الى مجرد سلعة وليست قضية. حماس ليست حصينة على الاختراق. وهذا اسمه ضرب القضية الفلسطينية ومصر في آن. ولكن مصر تقف بمثابة الحاجز امام هكذا تآمر على مصائر عربية بالجملة والمفرق، هذه قضية اساسية. أبو مازن اخبرني أنه سيذهب إلى تركيا ولكن المدخل إليها هو من مصر، وسيتم فحص الموقف المصري ومدى حصانته. الجو الاعلامي سيء تجاه الفلسطينيين.
العودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل الانفجار بات مستحيلاً. اطلاق مئات الصواريخ على اسرائيل هذا حدث جديد، كما حدث عندما ادخل حزب الله سلاح الصواريخ. استقر هذا العنصر بحيث ان العالم اللبناني ـ العربي ـ الدولي عاينه على الشاشات. الترسانة المسلحة هذه تحتاج إلى ظروف مختلفة لتحريكها. وهذا كامن وراء موقفنا ضد مساعي حزب الله أسر البلد، وجعل المكسب خسارة، والخسارة خسارة، يمكن أن نقدم حملة تنويرية لأنه لا قبل لنا أن ندعو اللبنانيين إلى تحرير لبنان من السلاح الفئوي، كما قال السنيورة عقب اغتيال شطح. حزب الله يلعب الآن ادواراً مجانية، القتال التفكيكي والتركيبي في مكان، وقدراته في مكان آخر. حجم القضايا شيء، وحزب الله شيء آخر، والأولى اكبر منه بما لا يقاس. وعلى كل حال عندما استشارنا أبو عمار، وقال لي معروض علينا اقتناص فرصة من أجل منع حماس من النشاط، قلت له لا تخطئ، لأننا نبدأ بمكان وننتهي في مكان آخر. وهذا لم يمنع فتح من أن تكون اللاعب الاكبر والاول في مجريات صمود الساحة الفلسطينية.
هذا يعبر عن جسامة الملف الفلسطيني، إضافة إلى الإشارات التي انفردنا فيها في وثائقنا. الآن المنطقة تشترك في الوصول إلى نتيجة. الحاصل حالياً هو شيء شبيه بما دُبر لمصر، وأتى بالاخوان المسلمين إلى الحكم. ومفاده أيها الاميركيون لا أحد يستطيع انقاذكم الا اذا اعتمدتم الاسلام السياسي حليفاً اساسياً، لأنه هو الذي يعطي ويحل في القضية الفلسطينية.. وعلى هذا الاساس تمَّ تكليف الاخوان المسلمين. وكلّف هذا التوجه ما كلّف.
الآن نواجه قطر وتركيا مفتوحة على ايران وبرعاية اميركية، وقد انكشفت بالأمس عندما أعلن تلفزيون الجزيرة أن المبادرة المصرية غير مقبولة، علماً أن حماس وضعت اشتراطات.. ولا حل الا بمبادرة قطرية ـ تركية برعاية اميركية. والهدف هو أن تقف حماس ضد مصر. وهو ما يدفع الاسلام السياسي الفلسطيني ليعوض عن فشله في استقرار مصر في حاضنته.
فلسطين تمر في منعطف سياسي ـ بنيوي ـ استراتيجي طُرح دفعة واحدة. في التبويبب للنقاش يجب العودة إلى ما كان قائماً في الحراك الفلسطيني من المصالحة، وما قبلها وما بعدها. هذا الرد على المصالحة الفلسطينية التي ستفتح الساحة على الاستعصاء وطنياً، وقد اتقن ذلك أبو مازن من خلال النفس الطويل في الصراع مع الاميركان وسواهم.. بما ينقل هذه السلطة من اراضٍ محتلة إلى دولة تحت الاحتلال.. من هناك احتدم الصراع إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
أوصي أن اسبقيتنا في قول موقف الصواب الفلسطيني لا تعطينا أن نقول أي كلام على عجل، فالمسألة ليست واضحة أو مبسطة، بل هناك تراث جديد يتوجب نحته انطلاقاً من المعطيات. نحن لسنا ممن يأخذون حق الإفتاء بحكم الاقربية. لا، لن نستسهل قول أي كلام. اذا استعادت فلسطين مناعتها واستأنفت معركة استقلالها واستقلاليتها، هذا سيفتح معارك لا أول لها ولا آخر. هل تستطيع فلسطين أن تشكل بقعة تُحسن الدفاع عن نفسها، والدفاع عما هو اوسع عربياً ودولياً.
هذا برأيي هو الموضوع الذي سيكون الاسبوع التالي مدار النقاش في ضوء ما بدأناه حول المعطى الفلسطيني وأين اصبح؟
المداخلة الثانية 7 آب 2014 : الحرب الاسرائيلية على غزة و… فلسطين
تحيط بالقضية الفلسطينية تطورات بالغة الأهمية، أبرز مظاهرها محاولة سرقة الصمود الفلسطيني، من خلال الاموال القطرية، وتركيا من خلال موقعها . إزاء هذا الوضع تواجه منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية الحفاظ على مكانتها مما يمنع اسرائيل من أن تفتح حرباً شاملة على غزة. وهي حرب كادت تتحول إلى حرب أهلية فلسطينية – فلسطينية، أقول ذلك ونحن في لبنان ـ أمامنا حرب تموز 2006 وتجربة 14 آذار وموقف حزب الله المتنكر لنضالات الشعب اللبناني. السؤال الذي أطرحه الآن هو التالي : هل الحرب الاسرائيلية هي على غزة أم هي على الشعب الفلسطيني بأسره؟ إن الحرب، ككل حرب يتحدد الموقف منها تبعاً لقراءتك لوقائعها وأهدافها، وهذا اقصى ما تقدمه القوى المشاركة والمتدخلة والظروف الموضوعية المحيطة. وهنا لا بد من القول إن العوامل كانت جاهزة كي تتصاعد الصراعات بين الفلسطينيين مع بعضهم بعضاً، وهذا كان موقع رهان اسرائيلي ـ اميركي ـ إقليمي.
لقد واكبت الوضع مع أبي مازن حتى الأمس وعلى نحو يومي، واعتبرت أن من حقي وواجبي تقديم التنوير اللازم، وهذا امر لا يقتصر على أبي مازن بل يشمل القيادة الفلسطينية بأسرها. أما سبب ذلك فلأننا لا نجد هوية وسياسة وطنية تقرب من أن تكون صافية، ويمكن أن تستنهض الوضع العربي الا القضية الفلسطينية. باعتبار أن معركة سوريا التي نشهد مأساتها اليوم تتقرر خارج اطار الموقع العربي والانتساب إليه. أما في العراق فالمعلن أن الصراع يدور بين العرب والاكراد والسنة والشيعة حول مصير هذه البلاد، وهو ما قد يؤدي إلى الإجهاز عليها. المسار الذي كتب للعراق وعلى العراق ليس جديداً.
وعليه، أقول إن القضية الفلسطينية ما تزال جامعة حقاً، بالنظر إلى جذريتها وجذرية اسرائيل بالتآمر عليها، ومسلك القيادة الفلسطينية ثابت منذ مائة عام (تاريخ صدور وعد بلفور) وإلى الآن.
وبالنسبة لنا إن السلاح الامضى في مواجهة المعسكر الامبريالي هو الشعب الفلسطيني المقاتل على ساحة الارض الفلسطينية المحتلة. الانشداد أمام الصلة والهاجس يكمن في عدم تفويت فرصة يمكن أن تخدم هذه المسيرة، التي ما تزال تعلن هوية قومية على حاملة وطنية موحدة. وكان أبو عمار يحرص دوماً على حضور قداس الميلاد، وكان يصل إلى كنيسة القيامة قبل الكهنة.. وحركة القوميين العرب حركة كانت تشكيلتها مختلطة دون ان تعبأ بديانات اعضائها وانتماءاتهم السابقة.
لكننا نشهد الآن غياب زمن البديهيات في العالم العربي، وبالتالي نحن في مغطس له أول وليس له آخر. ولذلك تبقى القضية الفلسطينية دوماً على جدول اعمالنا، وأمامنا مسؤولية ما نقوله للحركة الوطنية الفلسطينية وهي تجتاز هذه المحنة العسيرة.
بالنسبة لنا من الواضح أن اسرائيل لم تستطع أن تتحكم بالتداعيات التي تنجم عن الحرب، وهي تداعيات سياسية خارجية وداخلية ونضالية في الوقت نفسه. ما يدفع إلى مثل هذا القول، أننا نحن أصحاب الشعارات التي تحدثت مراراً وتكراراً عن أن مشكلة الثورة الفلسطينية هي الممرات الضيقة للوضع العربي، وهي ممرات كانت تفتح وتقفل دوماً، وقد تكرر ذلك مرات ومرات. والواقع أننا امام مأزق التسوية السياسية التي لم تفلح في شق طريقها، ومأزق الكفاح الفلسطيني المسلح، وتجربة انطلاقته من الارض المحتلة عبر الانتفاضة في العام 2000، والتي لا تناسب بين كلفتها ومردودها. هذا ما كنا نناقشه عندما نفتح النقاش حول القضية الفلسطينية.
إن اندلاع المواجهة وموقف طرفي القضية الفلسطينية الفلسطينيين، والموقف من الكفاح المسلح كل هذا وسواه في صلب نقاشنا. لقد فوجئتُ في الأداء الفلسطيني المسلح، الذي استطاع أن يقتحم عالم الأداء العسكري المدروس رغم فداحة الخسائر، مما اجبر المجتمع الاسرائيلي على أن يفكر خمسين مرة. وشيئاً فشيئاً تمأسست الحرب وباتت امراً واقعاً، وعلى هول الخسائر التي اصابت الجانب الفلسطيني كان الأداء الفلسطيني على قدر من المسؤولية.
المحرقة الفلسطينية التي اندلعت عبَّرت في الجانب الغربي عن فترة سماح اوروبية لاسرائيل تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”. ويحضر في هذا السياق اجتماع باريس (المانيا ـ فرنسا ـ بريطانيا)، وهو الاجتماع الذي تمّ تغييب محمود عباس عنه، وهو أمر له دلالاته الخطيرة، إذ إنه رئيس منظمة التحرير ورئيس الدولة الفلسطينية. موقف الادارة الاميركية كان أكثر فظاظة من ذلك فقد دعمت القبة الحديدية بـ 250 مليون دولار. أما قطر فقد تآمرت على القضية، وكذلك فعل النظام التركي.
بالنسبة لنا يتأكد أن هناك حيز من الوطنية الفلسطينية يبدو في الملمات، مما يؤدي إلى حماية جملة المصالح الفلسطينية. فإذن أصبح الفلسطينيون بين ماضيهم القريب وواقعهم الظالم ومستقبلهم العسير كأنهم على المحك لجهة الوطنية الفلسطينية الجامعة، التي تميز بين ما هو مسموح وما هو ممنوع. هنا كانت احرج أيام الحرب، وكيف تقود فلسطين سياسياً دفاعاً عن الشعب الفلسطيني ومستقبله. الكلام غير المسؤول من حماس وضدها حول شؤون البيت الفلسطيني، كله غاب. وحضر محله كلام مسؤول، خصوصاً وأن اسرائيل كانت تستهدف أيضاً المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية وحكومة المصالحة. الموقف الاسرائيلي كما عبر عنه نتنياهو واضح في دلالاته، عندما قال إن الوحدة الوطنية الفلسطينية هي خطر على اسرائيل.
بالنسبة لنا كانت سيطرة حماس على غزة جزء من صفقة للأخوان المسلمين الذين جاءت بهم إلى السلطة في مصر، بهدف إلحاق غزة بمصر، والخلاص من وحدة التراب الفلسطيني بين الضفة والقطاع. لم يكن مبسطاً أن تسلك العلاقات طريقها تحت وطأة الحرب بين حماس وفتح والجهاد، ويستعاد نَفَس الوحدة الوطنية الفلسطينية من دون فعل فاعل.
بالنسبة لي أهم ما حاولت أن اعالجه من خلال اتصالاتي وعلاقاتي مع أبي مازن وغيره من القادة الفلسطينيين هو التالي: أنتم في حرب واحدة، الحرب وقعت، وأنت الوحيد القادر على احتواء الجميع، وواجبك أن تحمي الشعب الفلسطيني من أن يتمزق، وأن لا تُفبرَك له قيادات. والملفت أن كل قيادات فتح سارت على هذا المنوال.
الأهم هو هذه الوحدة المقدسة وأن نؤسس على ما تمَّ استدراكه، وننظر إلى ما نحن مختلفون عليه ونناقشه. وهذه مسألة ضرورية أمام الاستحقاقات المقبلة. هناك مفاوضات مقبلة، وابو مازن دون سواه هو من سيقود السفينة وتشكيل وفد التفاوض، واختار عزام الاحمد من فتح وتمَّ القبول به، خصوصاً وأن المنظمات الاسلامية كانت تدرك حجم الكوارث اللاحقة بالشعب الفلسطيني.
نحن نناقش الآن وفي هذا اليوم بالتحديد يكتمل وصول الوفود إلى القاهرة، بما فيه الوفد الاسرائيلي. الوفد الفلسطيني موحد. أدخل في الوفد اليسار الفلسطيني كي يقول هذا هو الانتساب الجامع للشعب الفلسطيني.
ورقة اسرائيل خلال الاجتماع محورها نزع سلاح الشعب الفلسطيني، وطبعاً تدمير الأنفاق، وترجومة مؤداها كيف تكون غزة في خدمة اسرائيل. الفلسطينيون ليسوا مقصرين في مطالبهم فهم يريدون المطار والمرفأ وفك الحصار. خلال المفاوضات جرى تثبيت وقف اطلاق النار، وهناك كلام عن تمديد، وحديث عن مساومات والكل معه.
إن تقدير ابو مازن لنسبة نجاح التفاوض على خطوات تسووية أقل من 50%، بما يعني أن الراجح هو بروز تعقيدات، وستظهر الامور خلال اسبوع.
الخلاصة التي أود أن أختم بها هي أن وحدة الشعب الفلسطيني تمتحن في مصهر الحرب ونيرانها وعندها يكون التلاقي أصيلاً.
هذا تقديم ينطوي على مشروع قراءة سياسية موجزة، بناءً عليه، تأتي اهوال النقاش في الخيارات والمصائر العسيرة، وإن كان هناك اسئلة تتناول قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية وإلى أين نحن سائرون و….
على الجانب الاسرائيلي سيقال في المحافل الداخلية والعلاقات، إنه من دون مشروع تسوية لا نستطيع أن نعيِّش العالم على حرب مثل هذه الحرب.. هناك حديث عن فاشية عمياء مكلفة بالنظر إلى موقف جزء من الجمهور اليهودي الذي يسأل عن المصير؟.
هذه الحرب ترشح نفسها لأن تدخل في تاريخ الحروب التي ولَّدت تسويات اضطرارية. والأدق هو أن أي من الطرفين لم ينتصر، إذ لا يمكن القول إن اسرائيل هزمت وأن حماس قد انتصرت.