جورج غنيمة بين تجرد الذات والرؤية إلى الله…

بقلم نبيل مملوك

في مجموعته الأخيرة «وحيدا يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر» الصادرة عن دار الفارابي (طبعة أولى 2019) يستكمل جورج غنيمة (1953) مشروعه الشعري الذي بدأه في مجموعته الأولى، المرتكز على الرؤية إلى الله وخلق الوحدات الشعرية المفسحة لتواصل روحاني من جهة، والبحث عن نقطة الذات ورغبتها السرمدية من التحرر الفيزيقي والدنيوي، وصولا إلى خريطة طوباوية تؤسس لعالم يحفظ الشعر والمعنى.

الرؤية إلى الله وكسر طواحين البعد

إذا كان لوسيان غولدمان (قد جعل الله ركنا من أقانيم الرؤية الى العالم، فإن غنيمة خطف هذه الخاصية، وبدأ من قصائد هذه المجموعة بتكوين طوابق توصله إلى التخاطب الروحاني مع الخالق، بدءا من الإنسان بأشكاله وأطيافه الوجودية المختلفة منها الإنسان الشاعر : «راحت تبحث عنكَ في أدغال الغفوة ما بين شجرةِ الحُلُمِ».

والشعر نفسه «أمسي على أجنحة شمس المغيب/ في سفري إليكَ» وصولا إلى الحبر توأم الدم «يحيرني حبر روحِكَ» إذا قاربنا شكليا وفنيا هذه العبارات الشعرية، سنخلص إلى أنها جهد فني مكثف معياري غايته إيصال المعنى إلى مرحلة عكس الصورة، أو التعبير عن قصدية القصيدة، وعنوانها أما إذا جنحنا نحو المنطق الدلالي فلنا أن نعتبر هذه التراكيب الموجودة في قصائد مختلفة تشكل افتتاحية المجموعة منطلقا حقيقيا لاواعيا للجنوح نحو الله.

فالبحث من سمات الإنسان النبي والإنسان المؤمن والغفوة مدخل للرؤيا والمنام، أما الغياب والسفر فهما ثنائيتان متكاملتان متممتان لرحلة التسامي والإيمان. هذا الجنوح الواضح دلاليا نحو الإيمان دفع غنيمة إلى اتباع طريق الرؤية إلى الخالق عبر إخراج الغرائزية والتشيوء من خريطة الكتابة بدءا من الكناري «فلن يمتنع كناري القصيد عن نشر نشيده الأخضر».

والقصيد أو المقصد الرديف للمعنى المتواتر لدى غنيمة في غير قصيدة يعاكس تقليل الجاحظ لقيمة المعنى على حساب اللفظة والأخضر نشيدا هو الطبيعة والحياة وديمومة الكون العاكسة لمثالية الخالق اللامنتهية وترتيب الكون على أصلٍ خير.

من هذا المنطلق نرى أن غنيمة عبّد طريق التواصل مع الله من موجودات خلقها وأتى اعترافه الإيماني بخالقه وصداقته معه منطلقا من موجوداته الحسية العاقلة والجامدة الحمالة الأوجه والدلالات.

الذات وفرديتها بعيدا من المجموع

أتى ألفرد إدلر (1870-1937 ) بخاصية نفسية علمية معاكسة لما اشتغل عليه فرويد وتلاميذه وقبلهما غوستاف لوبون (1841-1931) من عناية بالنفس الجماهيرية، أو بالجهاز النفسي الجماعي، فأولى الفرد ثقافته المجردة من ثقافة المجموع..

وفي هذه المجموعة إصرار حقيقي شاعري على عكس الثقافة النفسية الفردية لدى الشاعر الراغب ببناء كونه الخاص، والانشغال باستقطاب الأحلام وتحويلها الى مشاريع دلالية، بدءا من خلط المكان بالروح «ريفكِ الممتدة حدوده من أسوار الرموش الأجفان إلى سواري الكاحلين».

والكائن بالمفاهيم «العصافير حراس قصر الحرية» ما يضعنا أمام محاولة ثقافية جدية لتشكيل المفاهيم بطريقة حسية طوباوية لا تحتمل الضدين وهذا ما يميز غنيمة من خلال انطلاقته الأسلوبية البعيدة في هذه المجموعة، على الأقل، عن الثنائيات المتناقضة الباعثة للشك والقلق.

والملاحظ بقوة ابتعاده عن الضجيج معنويا، فما كان منه إلا الاستحضار الفردي اليتيم للحبيبة لتشكل معه هذا العالم الهادئ، أو تساعده على ذلك «جالسيني ونادميني لتتجدد /بخمرتكِ المقدسة أزمنة قيامتكِ… أزمنة قيامتي».

يحاول فإذن صاحب «مساكن بيضاء لريشة كحلية « أن يبقى وحيدا بأدواته التأويلية ليجد في زمن يتأرجح فيه الشعر على حبل الحياة الصاخبة زاوية ملائمة لزهد المعنى.

في خلاصة هذه القراءة نردد بتصرف مع ابن خلدون ما قاله في مبتدأ مقدمته « على الناقد أن يكون قسطاس بصيرته…» فالناقد يعد محللا لا محاكما والشاعر في مجموعته هذه كان محللا ناقدا لموجودات الكون ومعيدا جادا لحساباته الحسية والعقلية مؤكدا انتفاء مبدأ التحرر طالما الشعر ما زال وحيدا يشدو القصب.

اخترنا لك