“مرض الكرسيّ وحشرجاته” تراجيكوميديا على ضفاف 14 حزيران 2023

بقلم عقل العويط

دعا رئيس “سيّد نفسه” (لا أحد سيّد نفسه) إلى جلسةٍ نيابيّةٍ مخصّصةٍ لانتخاب رئيس للجمهوريّة في الرابع عشر من حزيران الجاري. علمًا أنّ السدّة الأولى شاغرةٌ منذ زمنٍ دستوريٍّ ليس بقليل، وكانت مضت أشهرٌ عدّة من دون أنْ “يستيقظ” مَن يجب أنْ يكون دائم الاستيقاظ والرشد والتعقّل والعقل (كالضمير؟!)، لجعل مجلس النوّاب في حالٍ دائمةٍ من الانعقاد، وليل نهار، من أجل الوصول بالاستحقاق إلى خواتيمه الديموقراطيّة.

لكنْ لا شيء يمنع، في ظلّ “سيّد نفسه”، من استمرار هذا الشغور، ما دامت البلطجة هي القانون الوحيد المعمول به في الجمهوريّة اللبنانيّة. على ضفاف هذه الجلسة، وعشيّة انعقادها، كتبتُ هذا النصّ، متأثّرًا أيّما تأثر بتجهيز “الكرسيّ” المهيب الذي شاهدته في “غاليري جانين ربيز” قبيل افتتاح معرضٍ جماعيٍّ هناك في الخامس من الجاري، وهو تجهيزٌ تشكيليٌّ ممتاز، وكثير الدلالات، يحمل توقيع الفنّانة كريس الصوريّ.


بسبب الرئاسة والرئيس، صرتُ أتوجّسُ لا من الكرسيّ الرئاسيّ فحسب، بل من الكراسي جملةً، ومن الكنبات، ومن المقاعد، ومن كلّ ما يوحي بالجلوس مطلقًا، أكان الجلوس في قصرٍ (“مسكون”)، أم في مجلسٍ، أم في سرايا… أم في علّيّة. وأيضًا على قارعة.

بسبب الدكّة الرخوة، بات كلّ كرسيٍّ، وكلّ جلوسٍ، غوايةً، وسواسًا، مرضًا، بل انتحارًا، وموتًا. وأيّ انتحارٍ، وأيّ موت.

أُمضي وقتًا عميقًا من نهاري وحياتي جالسًا، لا استرخاءً أو تشبّثًا بموقعٍ أو بمكان، بل تفكّرًا وإنعامَ نظر.

الآن، في غمرة الغمرة المستشرية التي ترتبط بالشغور، بخلوّ السدّة، وبالفراغ، صرتُ أتفادى نفسي جالسًا، لئلّا يُساء فهمي، ولئلّا أيضًا يتسلّل إلى رأسي شيطانٌ من شياطين الغوايات. وما أكثر الشياطين على أرضنا، وفي نواحي الكراسي، وجهاتها، وجواراتها الممروضة.

وعليه، صرتُ أفكّر واقفًا، وأتأمّل واقفًا، وأشرد واقفًا، وأحلم واقفًا، وأيأس واقفًا، وأكتب واقفًا، وأتحاور متسامرًا مع الآخر، أو مناقشًا إيّاه، واقفًا، وأتناول طعامي واقفًا، وآخذ قيلولتي واقفًا، وأكاد أنام واقفًا، وقد أرغب أنْ أموت واقفًا، خشيةَ أنْ “أُصاب” بمرض الكرسيّ، بمرض الجلوس، بعدواه، ووسواسه. وخصوصًا، ولا سيّما، أنّ العرف الدستوريّ، والدستور نفسه، وعبارة “لا حكم عليه”، وجملة المعايير والصفات “الحميدة” الممهورة بها سيرتي، تمنحني الحقّ في تطلّب الكرسيّ، والتنطّح إليه، وفي خوض السباق والمنافسة، بغية الجلوس عليه.

يقولون: يا ما أحيلى الوصول إليه، والجلوس عليه، وإنْ خازوقًا!

ولِمَ لا. لِمَ لا؟! ما دام كلّ شيءٍ، هنا، بات مُباحًا، مُنتهكًا، بلا مهابةٍ، بلا وقارٍ، بل بات إلى انهيارٍ، إلى انحطاطٍ، إلى قعرٍ، بلا قعرٍ. ولا معيار.

وما الرئاسة، كلّ رئاسةٍ، ما دامت صارت إلى ما انتهت إليه. شلوًا هو الأشلاء كلّها، وبرمّتها، كفريسةٍ يُتلَمَّظ بها تحت اللسان، فوق اللسان، بين الشفتين، تحت الأضراس، وبين الحنكَين والفكَّين والأنياب. وهل ثمّة أشهى وأهون (من الهوان) من رئاسةٍ، هي غزالٌ مهيضٌ مُهانٌ في عزّته، مطعونٌ في كرامة معناه، جريحٌ ومضرّجٌ، يؤخذ من عنقه أخذًا شهوانيًّا مستطابًا، فيروح ينزف حتّى آخر نقطة دمٍ من شريانه الغليط، ومن دورته الدمويّة، حين تُرى عيناه – آنذاك – زائغتَين غائمتَين مسافرتَين فارّتَين إلى غير رجوع، وهما تودّعان الغابة، أو السدّة، بأسًى لا شبيه له ولا قرين. وأين منه ذلك الأسى كلّه، في تلك اللحظة المأسويّة التي ينسدل فيها ستار الحلكة المطلقة على الحكم والموقع والمكان والمكانة والدولة والجمهوريّة والعباد والبلاد.

لولا ما أحتمي به من فنون السخرية، لولا التهكّم، لولا الازدراء، لولا الاستخفاف، لولا الهجاء، لولا البصق، لولا الاحتقار، ولولا “مولايَ العقل”، كيف كان ليكون ممكنًا أنْ يتحمّل المرء الكريم كرسيًّا كهذا الكرسيّ، ومنصبًا كهذا المنصب، وموقعًا كهذا الموقع، ورئيسًا كهذا (وذاك) الرئيس، ورئاسةً، ورئاساتٍ، وعصاباتٍ طاغيةً، وطغمةً فاسدةً مفسدةً، ومافياتٍ ترعب الهواء والورود والحلم والخيال والافتراض، وميليشياتٍ تقتل الأفكار والأحرار، و”منظومةً”، وأتباعًا، ومتبوعين، وقراصنة برٍّ وبحرٍ وجوٍّ وسماءٍ وفضاءٍ، وسرّاق أموالٍ وبنوك، وحاكم وحكّام مصارف، وصيارفةً، ومحتلّين، وممانعين، وأوصياء، وراضخين، وذمّيّين، وسماسرةً، وقوّادًا، وأصحاب مواخير؟

وأسألكَ، أيّها الكرسيّ، كيف هي حالكَ، ومعنويّاتكَ، وحساباتكَ، ومفاوضاتكَ، وصفقاتكَ؟

ثمّ كيف هي كرامتكَ، وليتكَ تحدّثني قليلًا عن شرفكَ، وعن قسمكَ، وعن منعتكَ، وعن مناعتكَ، وعن عهودكَ، وتعهّداتكَ؟!

وأسألكَ، أيّها الكرسيّ، عن المتنطّح للجلوس عليكَ. أخبِرْني هل هو مستعدٌّ ومتأهّبٌ جيّدًا للجلوس؟ وأسألكَ أنْ تسأله مَن سيوصله إلى هناك؟ مَن سيحمله إلى السدّة؟ مَن سينتخب له؟ مَن سيمتنع عن الاقتراع له؟ مَن سيراوغ؟ مَن سيعتكف عن البوح والإعلان (ولماذا)؟ ومَن سيخبّئ الورقة إلى وقت الحشرة، إلى وقت الحسم؟

وأسألكَ، لأيّ سببٍ، كلٌّ من هؤلاء يتموضع حيث يتموضع، ويتسعدن، ويتفرعن، ويتحايد، ويصطفّ، ويدبّج بيان التبرير والتذرّع السفسطائيّ، ويفعل ما يفعل (ويقوم بزيارةٍ مفاجئةٍ ممجوجةٍ وغير مضفورةٍ بعلوّ النفس وكرامة العقل، ويقوم يزور رئيس النظام الجائر القاتل!)، ويختار ما يختار، ومَن يختار؟ أمن أجل دولة لبنان، والدستور، والمؤسّسات، وحكم القانون، وسيادة الجمهوريّة العزيزة؟

وهؤلاء، جميع هؤلاء، وأولئك، أيّها الكرسيّ، أعتقد أنّك تعرف الرأي فيهم، كلٌّ بحسب سعره، ومقامه، مهما علا شأنه، أو تسافل، وتدانى، وكان واطيًا (واطئًا).


إذا كانت هذه هي حال حشرجاتكَ، أيّها الكرسيّ المريض، وهذه وتلك هي أحوال المنشغلين (النوّاب؟!) بكَ، من كلّ حدبٍ وصوب، أقليلٌ أنْ تُزدرى، وتُحتقَر، ويُبصَق عليكَ، وأنْ صرتُ أتفادى نفسي جالسًا، فأفكّر واقفًا، وأتأمّل واقفًا، وأشرد واقفًا، وأحلم واقفًا، وأيأس واقفًا، وأكتب واقفًا، وأتحاور متسامرًا مع الآخر، أو مناقشًا إيّاه، واقفًا، وأتناول طعامي واقفًا، وآخذ قيلولتي واقفًا، وأكاد أنام واقفًا، وقد أرغب أنْ أموت واقفًا، خشيةَ أنْ “أُصاب” بمرض الكرسيّ، بمرض الجلوس، بعدواه، ووسواسه؟

… تاركًا لهؤلاء، “أسياد أنفسهم”، وأولئك، أنْ يقولوا هذا ليس بصاقاً، هذا ليس بصاقًا، بل هو مطرٌ تجود به مراحيض السماء.


أمّا أنتَ، فتبًّا لكَ، وسحقًا، أيّها الكرسيّ.

اخترنا لك