بقلم عقل العويط
صورةٌ رمزيّةٌ دلاليّةٌ بامتياز، هي في الآن نفسه لقطةٌ سينمائيّةٌ، مختصرُها وفحواها تلك الصورة الفوتوغرافيّة الملتقطة من الخلف لذلك الديبلوماسيّ الفرنسيّ الرفيع المستوى يمشي وحيدًا بدون “مرافقة”، وهو يجرّ في ردهات مطار بيروت الدوليّ العموميّة (وليس عبر القنوات الديبلوماسيّة ولا في الجناح المخصّص لكبار الشخصيّات) شنطتين صغيرتين، وحقيبة؛ شنطة ثيابه الفرديّة الخفيفة، في يدٍ، وشنطة ثانية في اليد الثانية، تحوي على الأرجح بذلته الرسميّة التي كان يرتديها في اجتماعاته. المشهد إنْ دلّ على شيء، فعلى غفليّةٍ فرديّة anonymat، وعلى خفّةٍ legerete، أشبه ما تكون معانيهما ودلالاتهما ورسائلهما موازيةً لحال المسافر الفرد المتملّص في تلك اللحظة من الأعراف والقيود الرسميّة من جهة، وموازيةً في الآن نفسه لحال الشخص العائد خالي الوفاض إلى دياره بعد مهمّةٍ عسيرةٍ في “بلاد الأرز” التي لطالما أطنب أدباء فرنسا وشعراؤها في القرن التاسع عشر تقريظًا لمحاسنها وجمالاتها.
إلى الشنطتين الخفيفتين، حقيبة سوداء ربّما تحتوي على ملاحظاتٍ ومقترحاتٍ سجّلها خلال زيارته القصيرة المقتضبة والمتحفّظة والكتومة لبيروت، عائدًا إلى بلاده التي كان اللبنانيّون حتّى الأمس القريب يسمّونها “الأمّ الحنون”، وذلك على وعدِ استكمال مهمّته شبه المستحيلة لتسهيل انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، وربّما أيضًا لرأب ما يمكن رأبه ممّا بقي من زمن “دولة لبنان الكبير”، على إيقاع الزمن المستجدّ، ووقائعه السياسيّة والمجتمعيّة المضمّخة بالخزي والمهانة.
على هامش هذه الصورة، لن أخفي امتعاضي لأنّ زيارة الديبلوماسيّ الفرنسيّ المحنّك لم يتّسع صدرها قليلًا لسؤال خاطر (ولو هاتفيًّا) نائبَين لبنانيَّين كريمَين مقيمَين في مجلس النوّاب ليلَ نهار منذ كانون الثاني الفائت، لحضّ زملائهم على لزوم البقاء في المجلس تطبيقًا للدستور في شأن انتخاب رئيس للجمهورية، في جولاتٍ انتخابيّةٍ متلاحقة إلى أنْ يطلع “الدخان الأبيض”. أيًّا يكن “اسم” هذا الدخان.
خطوة النائبين، على رمزيّتها (وللأسف عدم فاعليّتها)، كانت تستحقّ من الديبلوماسيّ الراقي – ومن باب الوفاء لمبادئ الجمهوريّة الخامسة – أنْ يقف على رأيهما فيستمع إليهما في مسألة الانتهاك المأسويّ المفجع لمقدّمة الدستور اللبناني التي تقول بأن لبنان دولة ديموقراطيّة برلمانيّة، لكن برلمانها عمليًّا يمتنع بحججٍ وذرائعَ هي أقبح من ذنوبٍ وجرائم، عن انتخاب رئيس للجمهوريّة بعد أكثر من ثمانية أشهر على شغور السدّة.
لا أعتقد أنّ ديبلوماسيًّا عريقًا من قماشة جان – إيف لودريان قد فاتته خطوةٌ عميقة الدلالة كهذه. في الغالب الأعمّ، لا بدّ أنّه تفادى القيام بها لئلّا يفهم رئيس برلماننا الحريص على سيادة السلطة التشريعيّة أنّها تنطوي، في معنى ما، على غمزٍ من قناته. الأرجح أنّ المسؤول الفرنسيّ قال في أعماق نفسه ما لي ولهذه الخطوة، والأفضل أنْ أتغاضى فأتفادى. لكنّه، لو زارهما، أو اتصل بهما، كان ذلك ليكون لفتةً لائقةً ذات مغزى، من ممثّل دولةٍ تزعم أنّها نبراس الحرّيّات والديموقراطيّات في العالم، في حين أنّ رئاستها وسياستها الحاليّتين باتتا في نظر الكثيرين متورّطتين، أيّما تورّط، في “السمسرة” الأمميّة المعيبة.
يقابل هذه الصورة الملتقطة في المطار، مشهدٌ انحطاطيٌّ لبنانيٌّ بامتياز، هو مسرح السياسة اللبنانيّة، بوقائعه وبفعائل أمرائه وأحوال مجتمعه. لم أقرأ في الكتب عن انحطاطٍ يوازي انحطاطه، أو يشبهه. قعرٌ تلوَ قعرٍ تلو قعرٍ من قطعانٍ، وقبائلَ، وعصبيّاتٍ، وعنصريّاتٍ، وأحقادٍ، وضغائنَ، وصغائرَ، ودسائسَ، وكيديّاتٍ، وأعمالِ نهبٍ وترويعٍ وتهجيرٍ وقتل، وأصنامٍ، وحشراتٍ، ودوابّ، وغربانٍ، ونفاياتٍ، وأوساخٍ، وسواطيرَ، وصواريخَ، وهلوساتٍ، وتخرّصاتٍ، وانتفاخاتٍ، وعظاميّاتٍ، وأورامٍ دماغيّةٍ وعقليّةٍ ونفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ، هي خلاصة هذا المشهد السياسيّ الانحطاطيّ اللبنانيّ العظيم.
لكنّ هذا المشهد اللبنانيّ السياسيّ الانحطاطيّ المقذع المريع الفظيع، إذ هو مشهد لبنان الحاليّ، ليس هو بلبنان حقًّا. أكرّر: ليس هو بلبنان. ولن نسمح له بأنْ يختصر لبنان. ولا أنْ يلغي لبنان.