ثلاثيّة مشهديّة واقعيّة سوريالية لأولاد حاراتنا اللبنانية

بقلم عقل العويط

في المصرف

دخل الرجل إلى المصرف لإجراء معاملةٍ روتينيّة، فاستقبله الموظّف من طرف عينه عابسًا متأفّفًا، وقال له من طرف شفتيه (أيضًا) وبآخر لسانه، من دون أنْ ينظر إليه: يجب أنْ تمهلني عشر دقائق، أمامكَ زبائن وصلوا قبلكَ، وأمامي معاملات…
نظر الرجل حوله فلم يرَ زبونًا واحدًا، ثمّ التفتَ إلى الموظّف متعجّبًا، فعرف هذا الأخير من تلقائه أنّه أرتكب، وأنّ طبعه يظلّ يغلب التطبّع الذي تفرضه الأصول واللياقات والمعاملات مع الزبائن، وأنّه أجاب كمثل آلة تسجيل، من دون أنْ يفكّر.
ثمّ كأنّ الموظّف أراد أنْ يتَدارَك غلطته، قال: أُنجِزُ هذه المعاملات، ثمّ أتفرّغ لكَ.

الرجل (الزبون) مال فورًا على زميلٍ للموظّف العابس، يحاذيه ويكاد يلامسه، لينجز له هذا الأخير معاملته خفيفًا باشًّا مبتسمًا وبأسرع من لمح البصر، وهو يهزّ رأسه ويحرّك أصابع يده في الهواء، كأنّه يدعوه إلى تناسي ما حصل أنْ يحجم عن التعليق على تصرّف صاحبه.

عندما ناداه الموظّف العابس (طبعًا لا تطبّعًا) داعيًا إيّاه إلى التقدّم، اقترب الرجل منه بودٍّ، ثمّ قال له هامسًا، مازجًا همسه بابتسامةٍ خفيفة، لكنْ بحزمٍ مقرونٍ بهدوءٍ مهذّبٍ على شيءٍ من لؤم: ألا تستطيع يا سيّدي أنْ تراعي أحوال الناس الكالحة المتجهّمة بدل أن تزيدها كلحًا وتجهّمًا باستقبالكَ الناشف الذي إذا دلّ على شيء فعلى أنّك ضيّق ذرعًا بوظيفتكَ ومعاييرها، فضلًا عن ضيق ذرعكَ بالناس؟ هل يتحمّل أولادكَ وزوجتكَ – مثلًا – أنْ تعاملهم بهذا الوجه الذي تخرج على الزبائن به، علمًا أنّ الزبون زبونٌ وليس ثمّة في المصرف “أهليّة بمحليّة” ولا ثمّة “خوش بوش” بينك وبينه لترخي جلافتكَ والفظاظة عليه، وأنّ من شروط الحدّ الأدنى للتعاطي مع الناس أنْ تُظهر شيئًا من حسن التصرّف والكياسة والرحابة؟ وأردف ناصحًا له، بعدما أعلمه بأنّه أنجز معاملته لدى زميله، أنْ يجتهد قليلًا ويخلع عن وجهه هذا التجهّم، لئلّا يقع في أحد الأيّام على زبونٍ “غير شكل” فيُريه نجوم الظهر ومن المرّ ما يجعله حلو المذاق.
ثمّ انصرف عنه، والموظّف فاغرٌ فاه، لا يدري ما يقول.
تذكّر الرجل، وهو خارجٌ من المصرف، عائدًا إلى المنزل، كيف كان موظّفو البنوك، قبل جريمة النهب المنظّم لودائع الناس، وانهيار العملة الوطنيّة، يستقبلون الزبائن بوجوهٍ مرحِّبة، وكيف كان مدير فرعٍ ما يخرج إلى الردهة داعيًا الزبون إلى فنجان قهوة في مكتبه. محض مفارقةٍ لئيمةٍ ولاذعةٍ في معايير التعامل وأخلاقيّاته، وجوهه وأقنعته، بين اليوم وأمس.

“توك شو” وسواه

الموظّف النشيط الوقور الماثل وراء الزجاج، في أحد المراكز الطبّيّة المرموقة، سأل الكاتبَ، باستئذانٍ واعتذار، وهو لا يعرفه إلّا من خلال اسمه الذي يظهر أمامه على بطاقة هوّيّته: أستاذ، مقالاتكَ في الجريدة (الورقيّة) يتبادلها القرّاء على مواقع التواصل (وأنا منهم)، فلماذا لا نراكَ تشارك في حلقاتٍ تلفزيونيّة، فتعبّر عن أفكاركَ ومواقفكَ أمام الرأي العامّ، لتساهم مع كثرٍ أو قلائل غيركَ في فضح الـ”توك شو” الانحطاطيّ، الوطنيّ – السياسيّ – الماليّ – الطائفيّ – الرئاسيّ – الحكوميّ – المجلسيّ، كما لا يفضحه أحد، وفي تعميم ما نحتاج إليه من معايير في العمل السياسيّ، ومن أخلاقيّاتٍ وثقافةٍ شبه مفقودة في التخاطب، كما لتساهم في إعداد النخب وإخراج الأحوال من فساد الانحطاط، وفي تقديم مقارباتٍ أخرى تناقض التصنيفات الجاهزة والسائدة التي تسيطر عليها الغرائز والعصبيات، وتعزّز التوجّهات التغييريّة، وتبلور كيفيّات تأطيرها، مكتفيًا بالكتابة في الجريدة؟

فاجأه السؤالُ من الموظّف، لأنّه لم يتوقّع أنْ يكون من قرّائه، دون أنْ يفاجئه السؤال نفسه. فهو كان أخذ عهدًا على حاله بأنْ لا يدخل شريكًا مضاربًا في كوارث نشرات الأخبار والريبورتاجات وبرامج الـ”توك شو” على شاشات التلفزة ووسائل التواصل، فضلًا عن المقابلات والفيديوهات واليوتيوبات والبودكاستات، ويشارك فيها عددٌ غفيرٌ من الذين يتعاطون الشأن العامّ، بمنازل ومراتب مختلفة، سياسةً وصحافةً وإعلامًا واقتصادًا ومالًا وأمنًا وبلطجةً وتسلبطًا وزعرنةً وترهيبًا وتجسّسًا وتزلّفًا وتحزّبًا ودينًا ودنيا…

أرسلَ الكاتبُ إلى الموظّف الوقور أمامه نظرةً مليّةً وعميقةً، على افترارٍ خفيف، مكتفيًا بمرارة المغزى، ومحجمًا عن الجواب. فقال الموظّف: أعرف من مقالاتكَ أنّك تنأى بنفسكَ عن هذا الخضمّ النتن. مردفًا: معكَ حقّ. ومستفهمًا بقلقٍ عن الحال والغد والمصير، واثقًا من أنّ الرجل الواقف أمامه ليس يائسًا من لبنان، رغم اليأس، ولا يرضخ لمنطق الاحباط واليأس، ولا للسقوط أمام جدارٍ مسدود.

عرزال ملء العقل… عرزال

لجأتُ لجوءًا إلى العرزال الذي نصبه لي صديقي بولس في جنينة بيتنا الريفيّ في بزيزا. نسيتُ الدنيا، لنصف ساعة، لساعة، لساعات، ولردحٍ من النهار، ولردحٍ مديدٍ آخر من نجوم الليل، معلّقًا بين الأرض والسماء، مفتَّح العينين، ومغمضهما، حينًا تحت قمرٍ أرعن ونجومٍ ساهرات، وحينًا ثانيًا تحت شمسٍ عاهرةٍ لم يتمكّن لهيبُها الحارق من اختراق “الشمسيّة” المذهلة التي نسجتْ قبّةَ قماشتها الكثيفة وريقاتُ شجرة الزنزلخت المهيبة، وأغصانها المتشابكة الوارفة.

من لا يعرف شجرة الزنزلخت، لا يعرف شمسيّتها التي “تنقل” المقيم تحتها، وفي قلبها، إلى عالمٍ آخر، هو مزيجٌ من واقعيّ – سحريّ – فردوسيّ، على طريقة الواقعيّة السحريّة التي تميّز أدب الرواية في أميركا اللاتينيّة. كيمياء من اليوميّ الحسيّ المعيش الملموس الهنيّ الرخيّ السهل المتناول، لكن أيضًا التخييليّ، ينسّي الهموم، ويطرد الأفكار السود، ويدجّن الهواجس التي تكفهرّ وتدلهمّ.

لجأتُ لجوءًا إلى العرزال، لأستلقي على فرشةٍ مغطّاةٍ بشرشفٍ فوضويٍّ مطواعٍ طيّبٍ رقراقٍ موشوِشٍ مُخشخِشٍ من “ورقو الأصفر شهر أيلول”، ناظرًا في مزيج السماء الزرقاء الخضراء، مستخفًّا بعصابات العهر السياسيّ التي لا تستطيع الارتقاء إلى “هنا”، مزدريًا الوطاوة التي باتت سمة عصرنا اللبنانيّ اللئيم، مبتسمًا لكرامة العيش، للنسيم البخيل الذي كنتُ نسيتُ مذاقه، ورفيفه، والهمس والحفيف، طوال شهرين سابقين من الحرّ والقيظ والرطوبة التي تهدّ الجبال، فكيف لا تزعزع الجسد والكيان.

لجأتُ لجوءًا إلى العرزال العقليّ – الشعريّ، لأحلم وأحلّق وأطير وأتحرّر، خفيفًا كما لو كنتُ على غيمةٍ، على بساطٍ من ريح، ناسيًا أنّي في المكان والزمان، متملّصًا من ربقة الهنا، ومن هول المكان والزمان، حيث في مستطاع المرء، وإنْ كان يحشرج ألمًا وقهرًا وفقرًا وإفقارًا وإذلالًا ومهانةً، أنْ يقول لا للموت، وأنْ يقهقه ساخرًا، ضاحكًا، صافعًا، باصقًا على الوجوه التي تشبه الأحذية ونعال الأحذية، من فرط ما يشعر هذا الكائن حيالها بهول ما ترتكبه في حقّ الحياة والعقل والكرامة الإنسانيّة. ولا حساب!

لجأتُ إلى هذا العرزال، لأقول لمَن لا يعثر على “مرقد عنزة”، أو على طريقةٍ للانتصار على المأزق، أو على أسلوبٍ للمواجهة، أو على ثغرة ضوءٍ تحصّن الروح وتعزّز الإرادة والصمود، إنّ عرزالًا متواضعًا من أغصانٍ وقشٍّ وورقٍ أخضر، في شجرة زنزلخت عزلاء، بل إنّ عرزالًا افتراضيًّا في العقل والشعر، لقادرٌ على أنْ يكون وطنًا، سيكون بالطبع أرفع مقامًا وأكثر عنفوانًا وكرامةً، ممّا آل إليه وطنٌ مطعونٌ على أيدي ساكني قصورٍ، وسراياتٍ، و… مجلسٍ قيل إنّه للنوّاب، بالتكافل والتضامن مع روّاد أوكار الفساد والانحطاط والإرهاب والقتل والموت والدعارة السياسيّة. وما أكثرها !

اخترنا لك