‏نجيب محفوظ والثلاثيّة (٣/٣) : ذروة الدراما وهدم الشخصيّات…

بقلم نبيل مملوك

‏على عكس المتوقّع٬ لم يضع نجيب محفوظ في “السكريّة ” الجزء الأخير من مشروعه الروائي الثلاثيّ ” ثلاثيّة القاهرة الحدّ للسيلان السرديّ والحواريّة٬ بل تداخلت النبرة المسرحيّة مع الحواريّة٬ وغاب الوصف تقريبًا ليتقدّم السياق الخبريّ المحفوف بالحركة المتتالية٬ وبالتالي تمّ التمهيد لتقدم الشخصيّات الجديدة ( عبد المنعم/ أحمد/ رضوان…) وتأخير الشخصيّات” التقليديّة” ( أحمد عبد الجواد/ ياسين /خديجة…) باستثناء كمال النقطة الضبابيّة المؤثرة على سواه تحديدًا أحمد وعائشة الأداة الدراميّة التي سوّغت الموت وأعلنت بانهيار ملامحها عن النفس التراجيدي في هذا السياق.

‏الشخصيّات ولغة هدم الذات

‏لم يتدخل محفوظ الذي حرص في جزئي بين القصرين و” قصر الشوق “على تصوير ذاتي للحدث وكأنه مصاحب للسرديّات وللشخصيّات عبر ضمير الغائب (وهو عكس المألوف حول الرؤية السرديّة )بل ترك السكريّة كمكان موحش وقاتم يصرخ بلغة الموت يسيل بالأخبار التي تدفع الشخصيّات الموزعة على بين القصرين وقصر الشوق إلى هدم ذواتها سواء بالتقدم نحو الموت والاستسلام للسن ( أحمد عبد الجواد وأصدقاء عمره ووفاتهم المتتالية) / ( نعيمة التي ٱثرت الزواج بعد عقبة اتمام تعليمها بحكم الأعراف) أو من خلال نهوض ذوات جديدة( استقرار جزئي في حياة ياسين من عودته الى العمل واستقرار حياته الزوجية ) أو تحّول الشخصيّة (تحوّل شخصيّة زنوبة العالمة إلى “زوجة صالحة”)
‏لتبقى شخصيّة كمال هي برزخ الشخصيّات تقف بين الثابت والمتغير بين الكسل والحركة ولعلّ هذه الادارة الذاتيّة لذوات الشخصيات٬ أعطت محفوظ نقطتين إيجابيتين الأولى القدرة المطلقة على تصوير الواقع والثانية هدم كامل لمنطق التفسير والتسويغ والمباشرة المستخدم في الجزئين الأولين.
‏والحقّ أن هذا الجزء بكلّ ملامحه الدراميّة٬ وحريّة الشخصيّات بالتعبير عن سلوكها الدرامي الميّال للتراجيديا يجعلنا نستغرب تخفيف لغة التحليل النفسي الموظفة بكثافة في “قصر الشوق” لنسأل ما المقصد من رفع سقف الدراما في “السكريّة” بغياب السياق النفسي الكثيف؟
‏ولأن الشخصيّة تدير نفسها٬ فإنها حكمًا ستتأثر بمن يحلو لها من شخصيّات أخرى فتأثر أحمد ابن خديجة واضح بكمال الخال الوفدي العدمي أو اللاأدري وتأثر عبد المنعم بالشيخ المنوفي الإخواني واضح…وبقاء أمينة على حافة البساطة شكل من الحريّة التي دفعتها لتأمين نفسها وتخشى الحاضر بحكم أميّتها.
‏كلّها عوامل تعيدنا نحو تفكيك الشخصية لذواتها متصارعة مع الموت الذي بدا بشكلين الحيّ عبر انهيار قيم عائشة الجماليّة ومفاتنها وموت السيد ومن ثم أمينة وعائدة وغيرها.

‏الحواريّة واللغة المسرحيّة

‏الثابت أن “بين القصرين” نصّ سينمائي/تلفزيوني خامّ ذيّل بملامح لغويّة كالاسهاب والتوصيفات وغيرها…لكنّ الحواريّة في السكريّة اتخذت ايقاعًا أسرع من قصر الشوق وبعدًا دراميًّا يحيلنا إلى المسرحة…فخديجة كانت عرّابة هذا الحوار من خلال رفضها لكلّ أفكار الٱخرين وبالتالي توظيف هكذا شخصيّة سلبيّة غير متصالحة مع نفسها يعدّ محرّضًا لسجالات حدثت بين الشخصيات وبلغت ذروتها الدراميّة حين دخلت الصدمة في الحوارات عند اعلان الوفاة أو المداهمة أو الحواريّة الأغر حول بين أمينة وكمال حول مفاهيم الشيوعيّة والاخوان وغيرها.
‏الحواريّة كانت النقطة الأساس لجعل الرواية تنطلق من منطق التصوير إلى منطق التفكيك…بدءًا من تفكيك الواقع من قبل الكاتب هدم الصورة السائدة والدعوة لبناء صورة جديدة أو تفكيك الشخصيّات لذواتها (مسألة زواج أوعدمه كمال المتواترة وانحرافه على خطى والده وأخيه ياسين دليل من جملة الأدلّة)
‏أو فتح المسار أمام المتلقي لبناء صورة يريدها من خلال عرض كلّ الظواهر القائم في مصر بين فتري الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالميّة الثانية٬ ليكون السياق السياسي بكثافته المتقاطعة مع تلك التي في بين القصرين
‏دعوة لقراءة تاريخ صاخب لا يهدأ صوت الرصاص فيه ولا براغماتيّة بعض الأفراد الحزبيين أو مبدئيّة بعضهم الٱخر.

‏تشكّل السكريّة الخاتمة الموجعة والدراميّة الحادّة التي تشي بالخروج عن كلاسيكيّة بدأ بها محفوظ مرغمًا على الأرجح في بين القصرين وخرج عنها تدريجيًا في قصر الشوق وصولًا إلى الجزء الأخير…الذي يشكل مع خاتمتي الجزئين الأولين حلقة واحدة عنوانها:” التراجيديا التي تفتح أبواب حيوات كثيرة”.

اخترنا لك