مشروع ذاكرة بقلم إبراهيم فرج
طبيب أخصائي في الجراحة العامة – ناشط سياسي في ١٧ تشرين
في لحظة بدت وكأنها خارج العادات والحسابات، (لا تُقاس بلحظة ٢٠١٥) خرج معظم الشعب اللبناني في ١٧ تشرين ٢٠١٩ إلى الطرقات والساحات معلناً غضبه وسخطه على منظومة أعادت إنتاج نفسها لعقود ثلاث وذلك بعد انتهاء الحروب العبثية المدمّرة والتي كان لغالبية أطراف المنظومة عينها دوراً دمويّاً فيها، على مدار عقد ونيّف.
لقد بدأت الانتفاضة ضد قرارات الحكومة التي ما طالت سنوات لعدم زيادة ورفع أجور القطاع العام وبعد إقرارها سلسلة من الضرائب على بعض القطاعات والمواد الأولية، إضافةً إلى تحويل البلد مملكة خاصة لبعض العائلات السياسية مع كل أجواء القمع والكبت السائدة والتي فرضتها بالأمن والقضاء…
إن مفاجأة الشعب اللبناني لهذه المنظومة جعل جبل الفساد يتكشّف رويدًا رويدًا والذي بدا أكبر من عملية اختلاس وتحايُل بل بان أشبه بعملية سطوٍ مُبرّمجة ومنظمة طالت كل شرائح المواطنين ولم توفّر حتى ودائعهم المصرفية.
لقد صَمدت هذه الانتفاضة العارمة، في الشارع، بضعة أسابيع، بفعل عامل المفاجأة للسلطة والتي سادت أطرافها حالة من الإرتباك والفوضى لفترة، ثم بدأت بعدها باستعادة زمام المبادرة عبر أدواتها القمعية الأهلية والخاصةً منها (مناصروها) والرسميّة والملحقة بها (خصوصا الثنائية الشيعية)، وعبر إيهام بعض “اللاهثين”، وراء “مراكز ترضية”، أنها ترغب في إشراك ممثلين عن قوى الإعتراض بنسبة الثلث عند إعادة تكوين السلطة…
إذن القمع والتلاعب بالخيارات والشعارات السياسية وتردي أوضاع المواطنين الاقتصادية، بشكل فجائي، وتداعيات الوباء الجرثومي ساهموا أيضًا في إضعاف الصوت والوجود الإعتراضي في كل الأمكنة واقتصرت المواجهة بعدها لأشهر مع بضعة مئات من المواطنين الأشداء والمناضلين المتمرّسين الذين، لخبرتهم السابقة وما راكموه من وعي عام، لم تنطلي عليهم أكاذيب ومناورات السلطة من جهة ولا الشعارات السطحية والشعبويّة التي كانت ورائها مجموعات وقوى تكاثرت كالفطر وأكدت بممارساتها ونطقها عدم أهليتها لصوغ البوصلة السياسيّة وكذلك تلوثها بكل آفات العمل السياسي الطفولي من الإنتفاخ الوهمي إلى الاستسهال والتبسيط إلى السطحية الكارثية (اسقاط النظام وحرب الشعب واعتماد العنف والدعوات إلى اقتحام المؤسسات والمصارف والمجلس النيابي واستحضار كل الموروثات الثقافية لبضعة عقودٍ خلت… الخ) والتي لا قِبل لهم على تنفيذها ناهيك عن خسائرها الصافية في زمانها!
يُكتب لـ ١٧ تشرين أنها أعادت نبض الحياة السياسية للبلد (خاضت انتخابات بلوائح مستقلة…) وساهمت بتشكيل وعيّ وتشجيع الناس في دوائرها الانتخابية على المجاهرة بالصوت العقابي، وجرّدت كافة أطراف المنظومة أخلاقيًا، بالدرجة الأولى، حتى غدوا لصوص ومافيويين في نظر العالم أجمع، فلزموا وعقيلاتهم وأتباعهم في قصورهم المُدشّمة يخشون التنقل ومواجهة الناس…
١٧ تشرين هي محاولة ولادة وطن، تعسّرت لكنها آتية لا ريب فيها… ستختصر وقت المخاض إذا ما نجحت قواها الفعلية في إعادة الوصل مع جميع القواعد الاجتماعية والاقتصادية، صاحبة المصلحة في التغيير، وتنظيمها في “كتلة تاريخية” تُعيد بناء ميزان قوى مواجه لميزان المنظومة ضمن صراع سلمي مستدام متطوّر لا يلين…
“المتشائمون، أنياً، والواقعيون دوماً يكملون طريق الحياة.. أما التبسيطيون المتساهلون والمتفائلون بغير علم فإنّهم غالباً ما يتقاعدون وأحياناً ينتحرون”.