مشروع ذاكرة بقلم سليم يونس
ناشط بيئي
ليس من السهل تقييم ما حدث في ١٧ تشرين، فذلك الزلزال الذي قلب الموازين، وقلب الأمور رأسًا على عقب.
تلك الثورة أو الانتفاضة “كما يحلو للبعض تسميتها” قد شارفت على إطفاء شمعتها الرابعة وسط الكثير من الإعصارات التي عصفت بذلك البلد (المنكوب) بطبقة سياسية جلفة لا يهمها سوى تكريس نفسها، من خلال الجلوس على كرسي الحكم، حتى لو كان الثمن تحويل كل ما يعترض طريقها إلى ركام.
لقد قال الشعب كلمته المدوية في لحظة مفاجئة، لم تخطر على بال أحد، والتي شكلت صدمة لكل من نام على حرير من هؤلاء المتحكمين في كل مفصل من مفاصل الدولة المتهالكة الفاقدة لأبسط القواعد التي تشكل الأساس المتين المطلوب لبناء دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأبرزها وجود قوانين عصرية تحفظ حقوق المواطن، وتحترمها، وتعمل على الوصول إلى رفاهيته… كي لا يضطر الإنسان إلى العيش بحرمان من التعليم، والطبابة، والغذاء، والكهرباء، والماء، والقضاء، وإيجاد فرص عمل مناسبة، وحفظ كرامته من الانتهاك المتواصل من قبل الأحزاب التي تؤله زعمائها!
ولا تسمح لأي جهة معارضة بأن تبدي رأيها بصراحة وهذا ما شهدناه بوضوح في الغزوات التي قام مناصرو تلك الأحزاب واستشراسهم في قمع وترهيب المتظاهرين، عبر إرسال التهديدات الواضحة إلى بيوتهم، واللجوء إلى العنف الجسدي لكم الأفواه، وكذلك اعتماد سياسة الضغط على المعارضين أو أقاربهم من خلال ابتزازهم عبر تهديدهم بفصلهم من وظائفهم وقطع مصدر عيشهم أو عبر بث الإشاعات المغرضة بهدف تسويد سمعة الأحرار الذي نطقوا بكلمات (واضحة وصريحة) وانتقادات لتلك الطبقة الحاكمة التي أمعنت في إذلال المواطنين ودفعهم إلى الهجرة بوسائل غير شرعية بما تحمله من أخطار كبيرة وبالفعل لقد خسر العديد من الأشخاص من مختلف الأعمار حياتهم غرقا في البحر نتيجة “يأسهم المطلق” من العيش داخل وطن يلفظ أبناءه كما يلفظ البحر القمامة مع ما يتركه ذلك الإحساس في النفوس من غصة وغضب وإحباط ودمار نفسي لا يمكن ترميمه بسهولة.
لقد شكلت تلك الثورة (التشرينية) المختلفة بالشكل والمضمون عن باقي الاحتجاجات التي سبقتها وذلك في عدم تسيسيها ومحاولة المشتركين فيها لفظ كل من حاول ركوب الموجة من قبل الأحزاب السلطوية، وادعاء البراءة، وغسل يديها من كل ما ارتكبته من موبقات سياسية واقتصادية، وترسيخ الطائفية “بشكل مخيف”.
بحيث صبغت تلك اللوثة الطائفية كل ما يدور في البلد بصبغتها ومحاولة استثمار كل حدث وتجييره لصالح الأحزاب الطائفية التي تنهل من وعاء التحريض وإلقاء التهم واختلاق الأحداث من خلال وسائل إعلامها وأخبارها وتحليلاتها السياسية المسمومة وهي تستعمل (لتلك الغاية) مجموعة من المطبلين المنتحلين صفة محلل سياسي وهو في الواقع لا يفقه من التحليل شيء ويعمل لحساب الجهة التي توظفه وتدفع له الأموال مقابل أن يتفوه ببعض العبارات التي تصب في خدمة مشغليه، وبهذا يتم تضليل ودغدغة عواطف الرأي العام، والتأثير في توجهاته ونفذت تلك التكتيكات بقوة وبلغت ذروتها في الاستحقاقات الانتخابية من خلال “تركيب الأفلام” وقذف التهم يمينا ويسارا، وإلصاق صفة العمالة، لدولة أجنبية، لكل من يتجرأ ويترشح للانتخابات سواء كانت نيابية أو نقابية وما عبارة عملاء السفارات التي دمغ فيها أحرار “١٧ تشرين” الذين ترشحوا للانتخابات النيابية إلا دليل واضح على إفلاس من أطلقها، وهي تعبير عن المأزق الذي تعاني منه الجهة التي تبث تلك الإشاعات… مع أنها هي نفسها تدين بولائها لسفارات بلدان أجنبية، وتتباهى بتبعيتها لها، وهنا المفارقة الكبرى فهي تحلل لنفسها ما تحرمه على غيرها!!!
ما شهدناه في الانتخابات النيابية التي استعمل فيها كم هائل “التجييش الطائفي” لكسب المزيد من الأصوات ولضمان عدم خروج أي أحد من الحظيرة الطائفية ولاستئناف حلقة السيطرة المطلقة على الأجهزة الأمنية والقضائية وتقاسم الوظائف على أساس الانتماء الحزبي والطائفي ورمي الكفاءة والنزاهة في مستوعبات النفايات.
الدرس الذي ينبغي تعلمه من ما حصل في “١٧ تشرين ٢٠١٩” وما بعده، هو كيفية تنظيم الاحتجاجات المدروسة، والمتواصلة على مدار السنة من خلال اللجوء إلى خطط فعالة ومؤثرة على الرأي العام المحبط في هذه الأيام نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، مع ما تتركه من أثار سلبية على مستوى التحركات الميدانية، ولكن ربما تكون تلك الكبوة الشعبية ظرفية، ومن الممكن أن نشهد ثورة عارمة في المستقبل تكون نواتها (تشرينية) ولكن بخبرة وعزم وإرادة وقوة وأكثر فعالية وهذا ما نتمناه للخروج من تلك الشرنقة التي تخنق الشعب اللبناني وتنغص عليه حياته القاسية.