مشروع ذاكرة بقلم داوود فرح
طبيب وناشط سياسي
بعد مرور أربع سنوات على اندلاع ثورة تشرين ولا زالت تداعياتها تعمّق الأزمة في بنية أركان السلطة السياسية رغم امتناعهم عن الفساد والنهب لكل ثروات ومقدرات الدولة، ورغم ذلك فإنه بات مرفوضًا في أذهان التشرينيين الذين انتفضوا على عقلية السلطة الجشعة، وذات العقلية الاستهلاكية والهادرة للطاقات البشرية، إذًا نحن أمام صراع بين عقليتين متناقضتين وهما عقلية الإنتاج وعقلية الاستهلاك، فالانهيار الاقتصادي الذي شهدناه وما نشهده حتى الآن ما هو إلا دليل آخر على فشل أهل السلطة في إدارة البلاد.
لقد استطاعت ثورة تشرين أن تكسر المحرمات والمقدسات التي بناها أسياد السلطة لأنفسهم وأخذوا الناس يعتقدون بأنهم يبنون الدولة ويخرجون البلاد من آثار الحرب الأهلية. إلا أنهم كانوا يتقاسمون الدولة على طريقة الحرب والتقسيم الجغرافي آنذاك، لأنهم لم يستطيعوا الخروج من عقلية الحرب. وهذا العقل، بالطبع، لا يستطيع أن يبني دولة عصرية تتوافق مع التطور العلمي المعاصر.
والملفت أيضًا أن الغالبية العظمى من رجال السياسة على المستوى النيابي والوزاري، منذ تأسيس النظام المبني على المحاصصة، لم تكن المعايير العلمية هي الأساس في أغلب القرارات الهامة على مستوى الدولة، بل كانت معايير توزيع الحصص والمغانم هي الأبرز التي يتم اتخاذ القرارات بناءً عليها. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي أدى إلى اندلاع ثورة تشرين؟ هل بنية النظام الطائفي القائم على المحاصصة هي نفسها السبب؟ أم هناك أسباب أخرى؟
وللإجابة على ذلك لا بد من الوقوف على شرح تفسيري لبنية النظام اللبناني من الناحية النفسية، أي من خلال مرتكزات الدولة العميقة.
لبنان ما قبل الطائف ليس نفسه ما بعد الطائف، ولكن ما الفرق بين الشكلين؟، ففي الشكل الأول للبنان ما قبل الطائف كان محكوم بالـ “الدويكا” أي حكم المارونية السياسية والسنية السياسية، وهذه التسوية حدثت في الدستور اللبناني في العام 1943 على أساس “لبنان ذو وجه عربي”، أي أنه فينيقي في الجذور وعربي في الشكل، وصار لكل من الطائفتين وظيفة منوطة به، فالسنية السياسية تجلب المال العربي إلى لبنان بحكم الانتماء الطائفي والعروبي، وذلك بعد النهضة المالية بفعل النفط، ووظيفة المارونية السياسية هي توظيف المال وذلك عبر إنشاء المصارف والتي لا زالت حتى الآن هي حق حصري لها بما فيها المصرف المركزي.
وكان آنذاك حاجة لدى أهل الخليج لإنشاء الحدائق للقصور الفخمة التي بنيت في الصراع وليس لها حدائق بفعل المناخ الصحراوي، فبالنسبة لهم لبنان كان يعتبر الحديقة العامة لكل تلك القصور ولا ضير في ذلك أن تدفع المال لتحسين الحديقة اللبنانية وتعزيز أماكن الترفيه، وهذه الحاجة الأساسية بالنسبة لهم، كما أن لبنان استفاد كثيرا في تلك الحقبة من حياة الرخاء على المستويات كافة، إلى حين اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975.
أثناء الحرب الأهلية برز العنصر الشيعي على الساحة السياسية وكان مشاركًا في جميع ساحات القتال وكان الأكثر قوة في الإقدام بدءًا من الساحات الجنوبية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي إلى ساحات الوطن الأخرى، وهذا أدى إلى تعديل الدستور باتفاق الطائف حيث تم إدخال الشيعية السياسية إلى الحكم، وإن كانت مفاهيم الاتفاقية تدعو إلى إلغاء الطائفية السياسية، ورغم كل البنود التي تدعو إلى إنشاء الدولة المدنية ودولة المؤسسات والقانون، إلا أن الحقيقة هي إدخال العنصر الشيعي إلى الحكم وبات يُعرف بحكم “الترويكا”، وكل ما هو غير طائفي فليس له حصة، حتى بات غريبًا في وطنه. ولكن ما هي الوظيفة المنوطة بالطائفة الشيعية؟
قلنا سابقًا أن السنية السياسية وظيفتها استجلاب المال إلى البلد، وتوظيف المال منوط بالمارونية السياسية، فحراسة المال هي من وظيفة الشيعية السياسية، وحماية المال تعني حماية النظام. ولأن المال محروسًا أصبح بأغلبه مشبوهًا، هذا خلافًا للنظام السابق أثناء حكم الدويكا، وهو بحد ذاته مصدرًا للفساد والنهب. وعلى أساس هذا التوصيف نستطيع القول بأن أمراء السلطة هم مشاركون جميعًا في شتى أنواع السلب والنهب مهما كانت تبريراتهم ليتجنبوا أو يتبرأوا من التهم الموجهة لهم. ولكن ما الذي حدث قبيل ثورة تشرين حتى انهار هذا النظام؟ ولماذا نجد صعوبة اليوم في إعادة انتاج السلطة؟
في العام 2016 جاء ميشال عون رئيسًا بفرض شروط حزب الله ونفوذه في الداخل اللبناني، وبعده بقليل بدأت حرب اليمن بين “الفرس” كما يسمونهم والخليج العربي بقيادة السعودية، وذلك من خلال الحوثيين في اليمن بالميدان العسكري والخطاب السياسي بقيادة حزب الله في لبنان، الخطاب الذي كان يُسيء إلى أهل الخليج بصفتهم العربية، وكل ذلك كان يحصل من لبنان دون التدخل الرسمي اللبناني في الحد من تلك الظاهرة أو تقديم الموقف الرسمي الذي يعبّر عن دولة لبنان كدولة صديقة للعرب. فما كان من أهل الخليج العربي إلا أن يأخذوا قرارًا حاسمًا في معاقبة اللبنانيين بتوقيف الدعم المالي لهم، وهنا قد سقط أهم ركن من أركان الدولة اللبنانية حيث السنية السياسية قد فقدت دورها الوظيفي في استجلاب المال وصارت خارج الصيغة اللبنانية.
وبعد ذلك دخلت البلاد في الانهيار الاقتصادي، وكما سمّي بـ “جهنم” على لسان رئيس الجمهورية، ولم نجد مصدرًا آخر لتدفق الأموال إلى البلد، حيث ظهرت نظريات تدعو إلى التوجه شرقًا، أو إلى الزراعات ولو في أضيق المطارح وغيرها، فمهما كان ذلك إلا أن الهدف هو البحث عن البديل المفقود، وفي نهاية المطاف وصلت الأمور وبرعاية حزب الله إلى التنقيب عن النفط وذلك بهدف ضمان استمرارية السلطة الحاكمة.
نحن كتشرينيين الخارجون عن التشريعات ذات المحاصصات الطائفية، والذين لسنا في حسابات أهل الحكم نتطلع إلى بناء دولة مدنية عصرية تقدمية ذات سيادة مستقلة تقوم على نظام الإنتاج وليس الاستهلاك الريعي، ولنا فرصة ذهبية بالثروات الطبيعية بالاستفادة منها في بناء الاقتصاد المنتج وتوزيع الثروة بعدل بين كافة الشرائح الاجتماعية على مساحة امتداد الوطن. وهذه التطلعات كانت هواجس الغالبية العظمى من اللبنانيين الذين نزلوا إلى الساحات داخل لبنان وخارجه، في التعبير عن استقلال لبنان من التبعية للخارج، ومن الارتهان للحاجة المالية المرتبطة بالخارج.
وأخيرا أقول أنه لا بد من المصالحة الوطنية الحقيقية للخروج من عقلية الحرب الأهلية من جهة، والخروج من لغة التخوين من جهة أخرى، هذا ما نطمح إليه في ثورة تشرين، وهذا ما فعلته ثورة تشرين في واقع الساحات العابرة للمناطق والطوائف والمذاهب والحارات الضيقة.