مشروع ذاكرة بقلم ميشال الشمّاعي
شاعر، كاتب ومحلل سياسي، حائز على درجة الدكتوراه في في اللغة العربية وآدابها
مهما تراكمت الأعوام على جسد ١٧ تشرين إلا أنّ روحها تبقى حيّة إلى دهر الداهرين. هذه الثابتة التي لن تتبدّل. قد تتبدّل مجريات الأحداث أو التطوّرات، لكنّ هذه الروح هي حتمًا باقية. لعلّ أبرز ما نجحت به ١٧ تشرين هو إحياء تلك المنظومة القِيَمِيَّة التي قامت على أساسها الفكرة اللبنانيّة. وهذا ما لم يناسب المنظومة الحاكمة. لأنّه ببساطة لا قِيَم عندها لتحكم من خلالها؛ إنّما حكمت وفاقًا لمبدأ التفاهة حيث نجحت بإيصال أتفه التافهين إلى مواقع القرار، وغيّبت المتنوّرين والرّؤيويّين والحداثيّين. وهذا ما أنتج حالة فريدة في طرائق الحكم، حتى أعتى المافيات في العالم لم تتوصّل إليها بعد.
من المهمّ دائمًا عند ولادة أي ثورة العمل على بناء نهج عقلي ليقودها. ولعلّ هذا ما شكّل أبرز نقاط قوّة خصومها الذين امتلكوا العقل الذي قاد حراكهم ضدّ ثورة ١٧ تشرين، ونجح باغتصاب جسدها وتشويهه حتّى إراقة آخر قطرة دمٍ من دمائه؛ لكنّ هذا العقل لم يدرك أنّه كما لهذه الثورة جسد فلها روح أيضًا، لا يمكن لأحد قتلها، إلا إذا هي اختارت الموت الطوعي.وما يثير الجدل في هذه القضيّة يكمن في كيفيّة بقاء هذه الروح حيّة، بغضّ النظر عن الكمّ الهائل من المآسي التي تعرّضت إليها.
ولعلّ هذا عائد إلى ارتفاع معيار التعطّش الوطني أوّلاً، وإلى الارتقاء الانساني ثانيًا. فممّا لا شكّ فيه أنّ الوطنيّين يملؤون الرُّحب، والذين يطمحون برفع مراتب الانسان هم كثر، لكنّ هؤلاء تمّ قهرهم بالترهيب حينًا وبالترغيب حينًا آخر؛ لذلك ما استطاعوا إحداث أيّ اختراق لهذا الدويتو الذي تشكّل نتيجة التجارب ما بين المنظّمة المسلّحة غير شرعيًّا، والمنظومة التافهة أي المافيا. وكان هذا التحالف بينهما على قاعدة الحماية المتبادَلَة. المنظومة تؤمّن حماية مؤسساتيّة للسلاح غير الشرعي، لينصرف هذا السلاح بدوره لتحقيق أجندته الايديولوجيّة الاقليميّة. على أن يؤمّن هذا السلاح بفائض قوّته تمكين المنظومة من التسلّط أكثر على مقدرات الدولة لتسيير شؤونها المافياويّة.
ولهذه الغايات مجتمعة جهد دويتّو الحكم على اغتصاب جسد ١٧ تشرين والتنكيل به. وهذا ما أمّن له ديمومة في الحكم. لكن ما لا يمكن إغفاله في هذه الحالة أيضًا، أنّ هذا الجسد قد وقع فريسة الحسد بوجهيه :
⁃الحسد الخارجي من كلّ الذين رؤوا في هذه الظاهراتيّة أنّها ستأخذ أمكنتهم التقليديّة.
⁃الحسد الداخلي الذي نتج عن تجاذبات داخل هذه الرّؤوى والتي لم تسمح لها بأن تتبلور.
وهذه الآفة البغيضة حدّت من فعاليّة هذه الثورة ولم تسمح لها بأن تستكمل مسارها. ولعلّ الخطأ الأفظع الذي وقعت فيه هو ذلك التعميم القاتل الذي ترجمته بشعار ” كلن يعني كلن”. فبنهاية المطاف لا يمكن أن يكون الخطأ مبدأ عامًا في المجتمعات، مهما اتّسعت رقعته. لذلك، وجب البحث في إعادة صياغة شعار يتلاءم مع مقتضيات الواقع المجتمعي اللبناني، لا أن يكون مستورَدًا من خلفيّات طوى الزمن صفحاتها.
كذلك يجب توحيد الرؤية الاستراتيجيّة، وفهم طبيعة الاشكالية اللبنانية التي لن يتمكّن أي فكر من فهمها إلا بفهم الاتّحاد الذي نشأ بين نظام التفاهة ونظام المافياويّة. وهذه الرؤية يجب أن تخرج بأهداف جامعة موَحَّدَة ومُوَحِّدَة. فالاشكاليّات الوطنيّة لا يمكن مقاربتها من زاوية اجتماعيّة مثلاً؛ وهذا برأينا الخطأ الأكبر الذي ارتكبته ١٧ تشرين في بناء مقاربتها الاشكاليّة بناء ناقصًا.
فما وجب القيام به هو مقاربة وطنيّة شاملة تبدأ أولاً من الموضوع السيادي، مع التأكيد على المطالب الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تعتبر وفق هرم ” ماسلو” أوّل درجة من درجات الحاجات الانسانيّة؛ إن لم تتأمّن هذه الحاجات الفيزيولوجيّة لن يستطيع الانسان العمل على ترقية مقدّراته العقليّة، وتطوير مستويات تفكيره العلويّة.
لكنّ الأولى لا تلغي الثانية. وفي الوقائع الوطنيّة والحياة اليوميّة التي يطمح إلى عيشها أيّ إنسان، إنّما يجب أن يسعى أيضًا إلى تأمين الضامن الذي سيوفّر له هذه الحاجات البديهيّة. وبرأينا من أخطاء 17 تشرين الاستراتيجيّة أنّها عمدت إلى نسف الأولويّات الثورويّة على حساب تبدية مصالح على أخرى. وهذا ما نجح دويتّو الحكم بتسجيله كأهمّ نقطة ضعف لهذه الثورة. زد على ذلك، غياب أيّ مجلس قياديّ، كي لا نقول قائد حقيقيّ يُركَنُ إلى حكمته القياديّة. ولعلّ هذا ما شكّل له القدرة على تحويلها من ثورة تشقّ طريق الحقّ والحقيقة إلى مجرّد ” فورة” لمّا تجد طريق التحرّر بعد.
ولأنّ 17 تشرين روح لا تموت، ولأنّ السياديّين الأحرار قالوا كلمتهم في ذلك الرابع عشر من آذار في العام 2005، ولأنّ النّاس صحّحت بعض خياراتها الانتخابيّة في العام 2022، ولأنّ قطار الحياة والتطوّر والتمدّن الزّاخر بعبق التّاريخ والقِيَم التي تربيّنا على أسسها، يسير قدُمًا صوب الشمس، تبرز ضرورة تصويب المسار التشريني ليتحوّل إلى ربيع لبنانيّ، يزهر في لبنان جديد يشبهنا جميعًا.
وهذا الأمر ليس مستحيلاً راهنًا. فالعقول نضجت بعد التجربة. ولاسيّما إن تمّت القراءة النقديّة بموضوعيّة بعيدًا من العواطف والانفعالات والتمنيّات. فالمقاربة العلميّة هي المطلب الأوحد في هذه الحالة. وبرأينا يجب البدء من إعادة بلورة مجلس قياديّ رئاسيّ يتّخذ قراراته بالاجماع الوطني، على قاعدة المشروع الثورويّ كمرحلة أولى.
على أن يصبح هذا المجلس نواة لحزب سياسيٍّ لأن علم السياسة يقرّ ويعترلاف بأن لا حياة سياسيّة تستقيم من دون وجود أحزاب سياسيّة تحمل مشاريع وطنيّة تقود خلالها المجموعات الشعبيّةّ. عبر تنظيم إداريّ مؤسّساتيّ قادر أن يحرّك هذه المجموعات، وليس عبر مجموعات مخترَقة من كلّ حدب وصوب على منصّات التواصل الاجتماعيّ.
تحييد المجتمع المدني من الانخراط في هذا المسار السياسي، وهذا ما قد لا يعجب بعض الذين شكّلوا أعمدة في ثورة 17 تشرين، لكنّ هذا الرأي قابل للنقاش، وقتما تدعو الحاجة لذلك. وهذه برأينا ضرورة ليستطيع المجتمع المدني لعب دور المراقب والمحاسب، وليس أن يلعب دور الوسيط السياسيّ؛ وهذا بالطبع ليس شأنه أو دوره. ولعلّ ذلك ما أسقط هذا المجتمع في أتّون من التناقضات التي قامت على أفكار متضادة لم تتمكّن من إيجاد أيّ سبيل للإلتقاء. وهذا ما وفّر لدويتّو الحكم ذريعة إضافيّة لمهامه في الاطباق على جسد 17 تشرين.
قد لا تكون الظروف الإقليميّة والدّوليّة مؤاتية لإعادة إطلاق ديناميّة جديدة تقوم على هذه الأسس الثورويّة. لكنّ ذلك لا يمنع من العمل في لحظات الوقت المضمَرَة، لأنّ السياسيّ الحكيم هو الذي يعرف كيفيّة استغلال الوقت وتوظيفه لتطوير مهاراته وقدراته بهدف تحقيق الكفايات السياسيّة التي تؤمّن له الإمكانات الوطنيّة لإيصال مشروعه حيثما يجب. أي إلى عتبة المؤسّسات في داخل نظام الحكم، لأنّ الشارع هو مدخل من مداخل التغيير السياسيّ لكن لا يمكن أن يكون هو ” المدخل” لهذا التّغيير.
العمل المؤسّساتي هو الأساس. وخارطة الطريق واضحة. ترسمها الرؤوى الموضوعيّة والعلميّة بعيدًا من الانفعالات والمشاعر الجيّاشة التي لا تنفع عند التخطيط ووضع الأسس الفاعلة لبناء ثقافة تغيير حقيقيّة. فهل ستستطيع هذه الرّوح الحيّة أن تبثّ الحياة في هذا الجسد الذي تحرّر من ترابه الأرضي والتحف بترابٍ كِيانيّ نهضويّ حداثيّ ثورويّ؟