مشروع ذاكرة بقلم يوسف مرتضى
كاتب و إعلامي و ناشط سياسي
رغم اللحظات التاريخية التي نعيشها في ظل العدوان الإسرائيلي الهمجي المتمادي على الشعب الفلسطيني، بأعقاب عملية طوفان الأقصى البطولية، التي كشفت وهن جيش العدو وقدراته الأمنية وزيف المقولة عنه، أنه الجيش الذي لا يقهر.
هذا العدوان الغاشم الذي تمارس إسرائيل فيه إرهاب الدولة بارتكابها أفظع المجازر المصنّفة وفق القوانين الدولية إنها جرائم ضد الإنسانية، يلقى وبصورة غير مسبوقة تغطية من دوائر القرار في معظم العواصم الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية التي لم تكتف بالتصريحات الداعمة للعدوان الإسرائيلي وصوغ تبريراته غير آبهة بما يتعرض له المدنيون الفلسطينيون من مجازر، بل استقدمت حاملتي طائرات والعديد من السفن الحربية دعماً لإسرائيل، فضلاً عن تزويدها بما تحتاجه من عتاد وذخائر نوعية لاستخدامها في عدوانها على الفلسطينيين.
وحتى كتابة هده السطور ونحن في اليوم العاشر على العدوان ما تزال نتائج هذه الحرب غير واضحة المعالم ، مع تقديري أنها خلافاً لمواجهات سابقة بين المقاومين الفلسطينيين والعدو الإسرائيلي، سوف تفرض نتائج هذه الحرب تحولاً تاريخياً في طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعربي الإسرائيلي ، وقد نكون أقرب من أي وقت مضى، لفتح مسار جدي لتحقيق الشعب الفلسطيني لأهم حقوقه بحل الدولتين.
ورغم انشداد اهتمام اللبنانيين إلى ما يحصل على الجبهة الجنوبية من مواجهات وإن كانت ما زالت محدودة وضمن ضوابط قواعد اشتباك، أعتقد أنه متوافق عليها بين الأميركيين والإيرانيين. إلا أن اللبنانيين أولاً وجهات إقليمية ودولية ثانياً يساورهم قلقاً شديداً من تدحرج الأوضاع نحو توسّع المواجهات خارج الأراضي الفلسطينية وبشكل خاص، على الجبهة اللبنانية مع فلسطين المحتلة.
وهنا تبرز أهمية تحلي الأفرقاء اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين في لبنان بالمسؤولية بعدم إعطاء الذرائع للعدو لتوسيع جبهة القتال، وعدم جر لبنان إلى مواجهات لا طاقة له على تحمّل نتائجها، خاصة وأنها قد تكون كارثية وتمثّل عبئاً على لبنان وشعبه وعلى القضية الفلسطينية بدل أن تكون عوناً لها.
وفي هذا المجال ، الجيش اللبناني مدعو لتكثيف نشاطه في مراقبة وضبط الحدود لمنع انزلاق الوضع إلى ما لا تحمد عقباه.
في ظل هذه الأجواء، وحيث أن الأزمات اللبنانية تزداد تفاقماً، سياسياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً، وحيث الفراغ ما زال مخيماً في المؤسسات الدستورية بدأً برئاسة الجمهورية، فضلاً عن تعطّل معظم إدارات الدولة وتحلل عددٍ آخر منها. وحيث أن ما تبقى من أفرقاء المنظومة الحاكمة فشلوا ويفشلون في إدارة مؤسسات الدولة ، وأن البديل التغييري لم يظهر أو لم يتبلور بعد، وبمناسبة الذكرى الرابعة لثورة ١٧ تشرين أرى أنه لا بد من كلمة تخاطب هواجس التغيريين وغير التغيريين .
أين أصابت الثورة ؟
١- لقد نجحت الثورة في إيجاد مساحات مشتركة بين اللبنانيات واللبنانيين وخاصة جيل الشباب. فاجتمعوا بمئات الألوف في ساحات الثورة على مساحة الجغرافيا اللبنانية بأكملها ، رفعوا العلم اللبناني وحده ، وأنشدوا النشيد الوطني وحده ، خلعوا العباءة الطائفية والمذهبية وتوحدوا تحت راية المواطنة مجسدة بالهوية اللبنانية دون سواها .
وهكذا أسقطت الثورة عند فئة واسعة من اللبنانيين سلاح الطائفية والمذهبية الذي لا تزال تتسلح به المنظومة الحاكمة ، أداة ووسيلة لمنع الشعب من التوحد حول مصالحه ، بتحفيز وإثارة الغرائز والعصبيات ، ما يمكّنها من تفرقة صفوف الناس واستقطاب صغار النفوس من الأتباع، والتهديد والتهويل بتفجير حرب أهلية كلما شعر أفرقاء المنظومة الفاسدة باهتزاز الأرض تحت أقدامهم ، بهدف إطالة أمد سطوتهم على مقدرات البلاد والعباد .
٢ – نجحت الثورة في تفكيك وحدة المنظومة الحاكمة عبر إسقاط التسوية الرئاسية بين عون والحريري ، من خلال إسقاط حكومة الحريري في الشارع . واتفاق معراب بين عون وجعجع وكذلك يهتز بقوة تفاهم مار مخايل بين حزب الله وعون.
٣ – نجحت الثورة في جعل مختلف أفرقاء المنظومة يتبنون علناً مطالب الثورة، وإن كان ذلك رياءً وكذباً.
٤ – نجحت الثورة بإظهار قوة إرادة التغيير عند الشعب، حيث أتيح لها أن تعبّر عن ذلك في صندوقة الإقتراع ، نقابة المحامين والرابطات الطلابية نموذجاً .
٥ – نجحت الثورة ، بأنها حولت الشارع إلى سلطة رقابية جدية على أداء أفرقاء المنظومة في السلطة بعد كشف ملفات فسادهم .
٦ – نجحت الثورة في إبراز دور المرأة والشباب في الحياة السياسية ، وقدمت وجوهاً نسائية وشبابية بمواصفات قيادية عالية، بعيداً من الولاء للزعيم أو الطائفة .
٧ – نجحت الثورة في انتخاب ١٢ نائبة ونائباً في انتخابات عام ٢٠٢٢، وبإبراز قدرة انتخابية لمتبني دولة المواطنة في الاغتراب وفي داخل الوطن تجاوزت ال ٤٠٠،٠٠٠ الف ناخبة وناخب، وهذا ما يبنى عليه في عملية التغيير في المفهوم التراكمي للقدرات مع التقدم في رفع مستوى الوعي المجتمعي بقضية التغيير، فالثورة هي ثورة وعي وليست انقلاباً عسكرياً .
أين أخفقت الثورة ؟
١ – لم تتمكن الثورة حتى الآن من تحقيق مطالبها الأساسية، والتي نعيد التذكير بها كما وردت في برامج مختلف المجموعات المنخرطة فيها، وما استجد منها، وهي اليوم تتلخص بـ :
أ – انتخاب رئيس للجمهورية من خارج أفرقاء المنظومة الحاكمة ، يلتزم تطبيق الدستور دون تفريط أو اجتزاء، ويتمتع بالمواصفات والقدرة على الجمع والتأثير في التعامل مع مختلف الأفرقاء السياسيين ما يعزز اللحمة الوطنية وإعادة تسيير أعمال المؤسسات.
ب – تشكل حكومة طوارئ مصغّرة من مستقلين أكفاء نظيفي الكف ، وتمنح صلاحيات تشريعية استثنائية ، لكي تتحرر من قبضة كتل المنظومة الحاكمة لتنفيذ البرنامج التالي :
- تحقيق استقلالية القضاء.
- وضع برنامج مالي اقتصادي اجتماعي طارئ لوقف التدهور الحاصل وإعادة الحياة للدورة الاقتصادية في البلاد، ووضع الحلول السريعة لمعالجة الضائقة المعيشية للمواطنين واسترجاع ودائعهم .
- إلقاء الحجز الاحتياطي على أموال وممتلكات جميع الذين مارسوا ويمارسون دوراً في الشأن العام مع أصولهم وفروعهم ، ومنعهم من السفر ، وفتح المحاكم للتحقيق بمصادر تلك الثروات ، لاسترجاع المال المنهوب ومحاسبة المسؤولين عنه .وإجراء التدقيق المالي الجنائي في مختلف مؤسسات الدولة وفي مقدمتها المصرف المركزي .
- إقرار قانون انتخابات جديد وفق ما ينص عليه الدستور ، لا سيما نظام المجلسين في المادة ٢٢ منه.
- إجراء انتخابات نيابية على قاعدة القانون الجديد ، لإعادة تكوين السلطات جميعها ، التشريعية والتنفيذية والقضائية ، والسير بحكم البلاد تحت سقف النظام ، وتطبيق الدستور دون استنسابية أو اجتزاء .
وبعد جريمة انفجار مرفأ بيروت ، استجدت مطالب ملحة عند الثوار ، تتعلق بالإسراع في الكشف عن أسباب تلك الجريمة المصنّفة ضد الإنسانية.
٢ – فشلت مجموعات الثورة في تنظيم صفوفها وتشكيل جبهة معارضة سياسية تقود الثوار وفق خارطة طريق محددة بالشعارات والأهداف والأدوات والزمن من أجل تحقيق مطالب الثورة . وهذا الفشل المستمر ، يعود من وجهة نظري لأسباب عدة ، منها :
- أن العديد من مجموعات الثورة هي حديثة العهد في التكوين وكذلك في السياسة ، وبالتالي هي حديثة الخبرة في السياسة والتنظيم ، لذلك الجمع بينها كمكونات سياسية للتحول إلى جبهة أو جبهات سياسية يستغرق الكثير من الوقت والنقاش . كل ذلك يترافق مع بروز تباينات أو خلافات داخل كل مجموعة في عملية استكمال بنائها الداخلي ، خاصة وأن معظمها حديث التكوين كما سبق وذكرت .
- ظاهرة الأنا المبالغ بها على مستوى الأفراد والمجموعات ، أيضاً تسهم بتأخير بلورة أجسام سياسية صلبة وقوية بين مجموعات الثورة.
- فشل نواب التغيير في تشكيل تكتل صلب فيما بينهم يتبنى مطالب وخيارات قوى التغيير ، ويشكل رافعة للعمل الوطني التغييري في داخل المجلس النيابي وخارجه. ولكن الفشل في هذا المجال لا يلغي ما أحدثه دخول نواب تغييريين إلى الندوة البرلمانية من تغيير في إيقاع عمل المجلس وإخراجه من حالة “الليو جيرغا” لصاحبها رئيس المجلس، إلى مؤسسة ديمقراطية تشريعية ضمن حدود نسبية معينة .
- رغم كل ما سبق ذكره، فإن المحاولات لجمع الجهود، بين نواب التغيير والمجموعات والقوى التغييرية لا تزال مستمرة من قبل أكثر من جهة ، ولا بد لهذه الجهود أن تثمر في نهاية المطاف، خاصة مع استمرار تفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبنيوية في الدولة.
٣ – ما العمل ؟ الثورة إلى أين ؟
من وجهة نظري ، إن جوهر الأزمة في البلاد التي تتجلى وجعاً مالياً واقتصادياً واجتماعياً ، جوعاً وبطالة وهجرة وفلتاناً أمنياً ، هو سياسي بامتياز ، ويعود للسببين أساسين :
- الأول، ناجم عن منظومة الحكم الفاسدة التي عملت على بناء سلطة ولم تبن دولة منذ اتفاق الطائف إلى اليوم . فتحاصصت البلد وإداراته وثرواته ، وجعلت منه مزرعة فالتة من أي ضوابط قانونية ودستورية ، وحكمت من خارج الدستور والنظام ، ما أدى إلى استشراء الفساد وهدر المال العام وسرقته ، بالتكافل والتضامن بينهم جميعاً دون استثناء .
- الثاني، إدخال لبنان في صراع المحاور ، ما أدى إلى عزلته العربية والدولية وخسارة ما يقارب ثلثي موارده ، ورهن قراره للقوى الخارجية.
ذلك الحل يتطلب مواجهة سياسية من قوى تغييرية منظمة يكون سقف برنامجها في ظروف لبنان الراهنة ، تطبيق الدستور دون استنسابية أو اجتزاء ، والنأي الفعلي بالنفس عن محاور الصراعات الإقليمية والدولية، واسترجاع القرار الوطني اللبناني المستقل. وهذا ما يجب أن تعمل عليه المجموعات الثورية بأسرع وقت في المقبل من الأيام ، من أجل تكوين كتلة شعبية وازنة تقود إلى تحقيق أهداف الثورة بالوسائل السلمية والديمقراطية المتاحة .