مشروع ذاكرة بقلم سامي الجواد
ناشط سياسي لبناني
تمكنت انتفاضة ١٧ تشرين منذ اللحظة الأولى لانطلاقها من تحقيق هدفين أساسيين :
الخروج من شرنقة الطائفة والحزب والمنطقة للدخول في بوابة المواطنة، تبع ذلك مباشرة سقوط الحرم الذي كان يكتنف رموز العصابة الحاكمة.
إذن، كانت حركة ١٧ تشرين إنتفاضة ولم تكن ثورة. فالثورة تهدم الموجود لتبني على أنقاضه المنشود، الثورة لا تتقدم من الحكومة بمطالب ولا تطلب شرعية مجلس النواب.
تمكنت هذه الإنتفاضة، بل ربما أعطت الفرصة للمواطن اللبناني، للخروج من شرنقة الإنغلاق الطائفي والحزبي، إلى واحة المواطنة الرحبة التي كانت تضم الجميع تحت مظلة المظلومية في الحد الأدنى، حتى لا نقول تحت مظلة الدولة غير الموجودة. هذه المظلومية التي جعلت من المواطنة خيارا واحدا وسبيلا واحدا وشرطا واجب الوجود لقيام دولة واحدة تمتلك وتحتكر ولاء مواطنيها.
الفساد المستشري، البلطجة الظاهرة في الشوارع وفي المؤسسات، تقاسم الجبنة بين الاقوياء تحت شعار الميثاقية، تقاسم الادوار بين الفرقاء تبعا لمصالحهم وفي ضوء تعليمات المشغلين الخارجيين، كلها عوامل ادت بالمواطن الى الشعور بالغربة داخل وطنه وبين اقرانه وشركائه، الى ان جاءت الساحات الواحدة والهتافات الواحدة في ١٧ تشرين لتدفع حركه الوعي المدني الى الواجهة، مقابل الجمود والتحجر الطائفي . في هذه الاثناء وبينما بدأت الساحات تغص باللبنانيين المتألمين المتظللين بالاعلام اللبنانية فقط، سقط جدار الخوف وصار المحرم مباحا. المحرم كان التعرض للزعيم وعائلته وحاشيته ومصالحه بالنقد او بالاعتراض. سقط هذا المحرم وبات التشهير بالاسماء والافعال والجرائم مباحا للجميع وعلى رؤوس الأشهاد. وكان صمام الأمان في ذلك الجو السائد المستجد، هو شعار “كلن يعني كلن” في تعبير عفوي عن سحب بساط الشرعية من تحت أقدام الجميع، لتعود الشرعية للشعب كل الشعب، الشعب الناقم على السلطة كل السلطة.
من الناحية الدستورية، وفي فلسفه الشرعية الدستورية، فان انتفاضه ١٧ تشرين قد حجبت المشروعية الشعبية عن السلطة المارقة، لتعيدها الى الشعب المتواجد في الساحات.
لكن، وكما لكل حراك عفوي شعبي اخطاؤه، كان لهذه الانتفاضة اخطاؤها، المبرر منها وغير المبرر، البريء منها وغير البريء. وفود وتجمعات وافراد اتوا من مناطق مختلفة ومشارب متنوعة وطوائف مختلفة، التقوا في الساحات ووقعوا عفوا في فخ الانفعال وسوء التقدير، بل ضعف الدراية بطبيعة النظام في لبنان من جهة، وبالقوة اللازمة لتحقيق ما رفعوا من شعارات ، مقابل قوة اخصامهم القابعين في السلطة والممسكين بأسباب قوتها.
فلبنان ليس مصر ولا تونس، النظام في لبنان لا يسقط بسقوط الرئيس. ومن هنا كانت المناداة بسقوط او اسقاط النظام، تقليدا ببغائيا غير واع، لمطالب اطلقت من ساحات مصر وتونس وغيرها. النظام في لبنان هو فدرالية طوائف وميليشيات وزعماء، تعمل على ايقاع اقليمي ودولي، دونما التفات إلى دستور أو قانون ولا حتى إلى أبسط قواعد الأخلاق. وبالتالي، فقد كان من السذاجة المطالبة بإسقاط النظام ولو حتى بالشعار.
الخطأ الجسيم الأكبر، والذي يؤكد بل يجسد’ عشوائية الجماهير غير المنظمة، كان المطالبة بحكومة محايدة. واستطرادا كليا، ولو افترضنا جدلا ان الانتفاضة استطاعت الزام رئيس الجمهورية – المطلوب اسقاطه – ولا سيما بعد استقالة رئيس الحكومة، بان يجري استشارات نيابية لتأليف حكومة محايدة مستقلة، فهل ينتظر اي ذي عقل، ان تحصل هذه الحكومة على ثقة مجلس النواب، الذي من صلبه كانت الحكومة المستقيلة.
هل من المعقول ان نطلب من النواب، توقيع صك إدانتهم فمحاسبتهم ومحاسبة زعمائهم بعدهم؟ وهل من عاقل يتوقع موافقتهم؟ كما انه لمن قبيل السذاجة، حتى لا نقول الغباء، ان يجهل احد ما او يتجاهل، القوة التمثيلية الواسعة للسلطة القائمة اليوم!! فهم المقاتلون والمتقاتلون منذ العام ١٩٧٥ وبعضهم منذ العام ١٩٦٩ ، هم القيمون على القتل ايام الحرب وعلى النهب خلال السلم، ممسكون بمفاصل السلطة ومكاسبها مستفيدين من حالة متفاقمة من الفقر والعوز، المطعمة بالجهل، يتوسلون الزبائنية السياسية في لتوظيف ونظام الإعاشة للفقراء، والتمويل للكبار، والتحريض المذهبي عند اشتداد الأزمات. ناهيك عن استغلال القضاء والامن للترهيب والترغيب والتخوين. لقد استطاعت هذه السلطة ان تجمع بين صفوفها من الاسرى ما يكفي لخوض معاركها، فالناخبون ليسوا سوى اسرى في سجون أحزابهم وزعمائهم، ووقود لمعاركهم.
مطالب ١٧ تشرين وقعت في مطب الغوغاء والانفعال والفوضى، وربما في احد فخين، أو في كلاهما: فخ المخطط الذي كان يستثمر في آلام اللبنانيين ونقمتهم على قياداتهم، لينشئ حالة من الفوضى، تؤسس لانهيار شامل كما هو حاصل اليوم. نعم، ثمة من استثمر في هذه الانتفاضة، ليحرفها عن مسارها المطلبي الجامع ويخرجها عن جادة الاجماع العفوي الصادق، الى زواريب المطالب غير القابلة للتنفيذ، وتلك المستحيلة او المستجلبة للانقسام، كالحديث عن سلاح حزب الله. اما الفخ الاخر فهو استغلال افرقاء السلطة انفسهم، لفاعلية الحراك وتفاعل الوجدان الشعبي معه، فاستقالة الرئيس الحريري اتت بجمهور المستقبل الى الساحات، والعداء للتيار الوطني الحر اتى بجمهور القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، في محاولة لضرب عصفورين في حجر واحد، تقليص جمهور التيار الوطني الحر وحرق اوراق رئيسه جبران باسيل في الانتخابات الرئاسية المقبل، وتاليا سحب الاكثرية النيابية من فلك حزب الله وحلفائه. وهنا تحولت الساحة المطلبية الى ساحة تصفية حسابات انتخابية ورئاسية بعيدة كل البعد هن الهدف الأساسي للإنتفاضة وهو إصلاح النظام ومحاربة الفساد ومحاسبة المفسدين. هذه الحسابات التي رسمت ارهاصات الفشل الاتي، الفشل الذريع الذي منيت به هذه الانتفاضة في الاستحقاق الانتخابي ٢٠٢٢ .
خلال انتخابات ٢٠٢٢ وبسبب اعتماد النظام النسبي وبسبب التوزع المعروف للقوى السياسية والمذهبية على المناطق، أطاحت الحسابات الانتخابية بالحدود الدنيا من التنسيق بين قوى الاعتراض، لاسيما منها المنبثقة عن إنتفاضة ١٧ تشرين. ولا يغيب عن بالنا ان تلك الانتفاضة، قد افرزت فيما افرزت، رؤساء اكثر من المرؤوسين ومرشحين أكثر من الناخبين، وذلك نتيجة للفوضى والغوغاء والاندفاع غير العقلاني في مواجهة سلطة متمرسة بالتزوير والقمع والتسلط تتنافر وتتصالح بحسب مصالحها ليس إلا.
فإلى حسابات الطموح والأنا الشخصيين، ما هو مشروع منها وما هو غير مشروع، دخل على خط الفرقة والافتراق، المقياس المتبع في تصنيف المعارضة فتيار المستقبل يعتبر نفسه من المعارضة بعد استقالة الرئيس الحريري، وكذلك حزب الكتائب الذي لم يكن ممثلا في الحكومة الأخيرة، ولم يختلف حزب القوات في تصنيف نفسه كذلك. بعض المرشحين من اركان الانتفاضة رأى ان اي مرشح معارض لحزب الله فهو معارض ولا مانع من التعاون معه، البعض الاخر اعتبر ان حزب الكتائب خارج السلطة ولا مانع من التعامل معه، كما برر فريق آخر موقفه بقوله انه لا باس باجتماع الاضداد ضد لوائح السلطة متناسيا ان هؤلاء الاضداد كانوا قد تقاسموا السلطة حتى الامس القريب حين اختلفوا على اقتسام مغانمها.
بسبب هذه المقاربات المختلفة لمفهوم المعارضة تعددت اللوائح وتشتت قوة الإعتراض. ساهم تعدد اللوائح في خسارة مقاعد عديدة كانت شبه محسومة حسابيا في حال وحدة الاعتراض. اما بعد وصول نواب ١٧ تشرين فالموضوع لم يكن اكثر صحة وفائدة.
شخصيا اعتقد بان من الطبيعي في انتخابات تأتي بعد انتفاضة عفوية و غير منظمة او غير موحدة، ان لا تاتي بفريق متناسق منسجم. فالمعارض في الجبل لديه مشكلة مع زعيم الجبل ويتفق مع زعيم اخر. ومعارض في الشمال لديه خصومة مع زعيم الشمال وربما يلتقي مع اخرين ، وعلى ذلك قس ما سواه.
مقياس المعارضة لم يعد “كلن يعني كلن” بل اصبح معارضات منها للعهد الرئاسي ومنها لحزب الله ومنها ما هو معارض للكل.
بعد خوضي لتجربتي في هذه الانتفاضة، مشاركا في صفوفها ومرشحا في الانتخابات وناشطا على اكثر من صعيد، استطيع القول جازما بانها حركه حق اريد بها باطل. ثمة من دنس مشاعر الالم الصادقة – ولا مشاعر اصدق من مشاعر الألم – ثمة متدخلون من أهل السلطة، ومن خارجها ومن خارج حدود الوطن أيضا، ثمة انتهازيين وثمة دخلاء.
انتفاضه ١٧ تشرين أعادت الامل إلى نفوس اللبنانيين الشرفاء، بان هناك فرصة للتحرر من هذه الطبقة السياسية الفاسدة، العميلة للخارج. فالخروقات الانتخابية على تواضعها كسرت نمطيه اللوائح المعلبة والنجاح المحسوم سلفا. والصوت الذي ارتفع في الساحات كسر محرمات التخويف ونطق بالحقيقة، وسمى كل مسمياتها، بعد عقود من الخوف والتخويف والسكوت والتقية والنفاق، فصارت للفاسدين اسماء مشهورة وعناوين معروفة، ولم يعودوا اشباحا يتصدى الجميع لمحاربتهم كذبا ونفاقا.
أكدت هذه الإنتفاضة بأن آلام الظلم والإفساد، مضافة إلى آلام الاحتلال وغطرسة الوصاية، قد كرست الوحدة الوطنية الناصعة في بوطقة الولاء للوطن، وأن هذا الشعب هو شعب واحد تواق إلى الحرية، وإنه قادر إذا ما توفرت له قيادة صادقة وسلطة عادلة ودولة قادرة، قادرعلى الإرتقاء بوطنه إلى مصاف الأمم الراقية والدول الرائدة.