مشروع ذاكرة بقلم فؤاد سلامة
طبيب وناشط سياسي
في 13 أيلول 2020 احتفل لبنان الرسمي بذكرى مرور 100 عام على قيام لبنان الكبير.
احتفالا كان باهتاً من دون شك ومر مرور الكرام من دون طبل وزمر، وكأن تلك الذكرى لا تعني شيئاً للبنانيين المنهكين بلقمة عيشهم المغمسة بالذل والدموع.
مَن مِن اللبنانيين يهتم لذلك التاريخ ؟
قبل تلك الذكرى المئوية بعام تقريباً احتفل اللبنانيون في الشارع في ١٧ تشرين أول 2019 بما أسموه ثورة أو انتفاضة ضد النظام المتخلف وضد المنظومة الحاكمة منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1991.
كلام كثير قيل في معرض مديح تلك الثورة / الانتفاضة، كلام عن نهاية عصر وبداية عصر، عن عالم قديم ينهار وعالم جديد يولد من تحت الأنقاض ولا يبدو واضح المعالم.
ثمة تفاؤل وفرح لا تتسع له القلوب جعل كبار المفكرين اللبنانيين المتشائمين عادة في لبنان يستبشرون خيراً ويتوقعون نتائج باهرة لتلك الثورة. بعض الناشطين توقعوا ملاحقة حكام لبنان ووضعهم في السجون أو هروبهم من البلد، وبعضهم طالب بسحلهم في الشوارع.
اليوم بعد مضي أربع سنوات على ذاك “التاريخ المجيد” يبدو للمراقب أن حساب الحقل لم يكن مماثلاً لحساب البيدر. ثمة لبنان قديم إنهار وتفكك ويلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكن شمس لبنان الجديد لم تبزغ بعد والمستقبل يبدو قاتماً غير واضح المعالم.
العديد من اللبنانيين المؤيدين لانتفاضة ١٧ تشرين يترحمون اليوم على لبنان ما قبل الحرب، لبنان “المارونية السياسية” و “الإقطاع السياسي القديم”، لبنان درة العالم العربي وسويسرا الشرق.
والكثير من اللبنانيين باتوا يعتقدون أنه يستحيل إعادة تركيب وطن مصاب بلعنة التاريخ والجغرافيا ومحكوم بدورات العنف والنزاعات الأهلية، وطن لا يوجد شعب يتوحد خلف عَلَمِه ورموزه وأبطاله وتاريخه وأساطيره.
برأيهم أنه لم يجتمع اللبنانيون يوماً حول سردية جامعة، ورغم وصول كتلة نيابية مهمة تمثل تطلعات قوى التغيير وتحمل سردية ثورية مفعمة بالأمل شارك في نسجها مئات الآلاف من الشباب والصبايا والكهول الذين أعلنوا انتسابهم لروحية وذهنية وبرنامج ثورة / انتفاضة ١٧ تشرين، رغم كل ما حملته تلك الموجة الثورية من زخم ومن وعود فإن الواقع السياسي يبدو بعيداً كل البعد عن أحلام وآمال جمهور ١٧ تشرين.
بعد مضي أكثر من شهر على الموجة الثورية الأولى في العام 2019 من دون تحقيق نتائج ملموسة بالاستفادة من موازين القوى الجديدة التي أرساها المنتفضون بحيث ينعكس على السلطة ومؤسساتها ويُتَرجم بإنجازات حقيقية، بدأ المتابعون والمشاركون يراجعون حساباتهم ويتصرفون وكأن الانتفاضة عاجزة عن تحقيق ما وعدت به وصدَّقَه الكثيرون في الأسابيع الأولى.
ما هو سر هذا الفشل أو العجز أو التراجع ؟ هل التفسير كامن في جمهور الثورة والقوى المشاركة فيها وبالتحديد فيما أسميناه عدم الاتفاق على تقديم بديل مقنع وجاذب وعدم بروز قيادة موحدة تفرض برنامج الثورة وترغم “المنظومة” على إفساح المجال للقوى الصاعدة بأخذ موقعها في قيادة البلد وإنقاذ اقتصاده ومراكبه الغارقة ؟
أم أن التفسير الوحيد المقبول هو وجود قوة أهلية منظمة ومسلحة قررت التصدي بكل ما تملكه لحركة التغيير الواعدة، مهما كلف الأمر من دماء ومن حرب أهلية لا أحد يريدها من جمهور الثورة وقوى التغيير ؟
لا يسعنا في معرض التحليل الموضوعي من ربط ما حصل في لبنان بعد 19 أكتوبر 2019 من تراجع للموجة الثورية حاملة شعارات الحرية والتغيير والحداثة والتنوير بما حصل لكل ثورات الربيع العربي ابتداء من الثورة التونسية وانتهاء بانتفاضة لبنان التشرينية.
كل تلك الثورات والانتفاضات ابتدأت سلمية ومبَشِّرة بعصر جديد تنال فيه الشعوب ما وعدت به تلك الثورات من حقوق وحريات ومشاركة في السلطة بل وتداول للسلطة. كل تلك الثورات انتهت بمصير بائس سحقاً وكسراً وقمعاً وسجناً ونكوصاً إلى الماضي وعودة للصراعات الأهلية البدائية وصعوداً للقوى الظلامية والدكتاتورية.
السؤال هو هل أن النخب الحداثية التي قادت تلك الانتفاضات والثورات في بدايتها بالغت في التفاؤل وفي تقدير إمكاناتها ووحدة قواها ونجاعة برامجها وتوق شعوب المنطقة إلى الحرية والعدالة والحداثة ؟
هل يمكن لوم تلك النخب على عدم قدرتها على توحيد صفوفها وأهدافها وتشكيل قيادة واعية وناضجة تقود عملية التحول والتغيير كما حصل في ثورات حصلت في الماضي ؟
الكلام عن غياب “الحزب الطليعي” و “القيادة الثورية” أصبح ممجوجاً ولا يلقى صدى في عصرنا. لم يعد ممكناً اليوم تكرار تجارب حصلت في أسبانيا واليونان والبرتغال في النصف الأخير من القرن الماضي. من دون أن نذكر بأكثر من تلميح “ثورات” حصلت في روسيا والصين وكوبا وإيران وأرست دكتاتوريات لا أحد يحلم اليوم بها كبديل للأنظمة المتخلفة في بلداننا.
بالعودة إلى انتفاضة ١٧ تشرين اللبنانية هل نقول ما يقوله البعض سراً إن لم يكن جهاراً بأن الثورة فشلت وينبغي الإقرار بالهزيمة بدل التلطي خلف الأعذار والبحث عن التبريرات ؟ أم نحاول أن نرى نصف الكأس الممتلئ لا النصف الفارغ لنعزي أنفسنا من جهة أولى ونستعد من جهة ثانية لاستخلاص الدروس والعبر تحضيراً للموجة الثورية القادمة مهما طال الزمن ؟
ثمة إجماع أن ثورة/انتفاضة ١٧ تشرين دخلت التاريخ اللبناني كأهم حدث في هذا البلد الصغير تَلاقى خلاله ولمدة تزيد عن الشهر مئات الآلاف من اللبنانيين من كل المناطق والأجيال والأصول الطائفية في تعبير عن التضامن والمحبة والمساواة بين المواطنين من دون تمييز، وتعبير صارخ عن رفض أكثرية اللبنانيين، عندما تتاح لهم الفرصة، لمنظومة “أوليغارشية مافيوية” استولت على السلطة في غفلة من الزمن وارتكبت كل الموبقات باسم الشرائع والديانات ومصلحة الشعب والوطن وتحت ستار “الديمقراطية التوافقية” من دون ضمير أو رادع أخلاقي تدّعي الطوائف والمذاهب أنها قامت عليه.
١٧ تشرين شكلت لحظة فاصلة عن زمن الكذبة الكبرى، كذبة الوحدة الوطنية وميثاق العيش المشترك الذي قام عليه لبنان منذ الاستقلال ولم يكن فيه شيء من الوحدة ولا مشتركات حقيقية بين اللبنانيين بل تجاور وتعايش على مضض بين جماعات لا تعترف بحقوق الأفراد وحرياتهم بل تفرض عليهم حقوق جماعات مُتَخَيَّلة، وتفرض عليهم زعامات إقطاعية قديمة أو “حديثة” متسبدة ومستبدة تختصر بأشخاصها وسلالاتها الوطن والدولة والمؤسسات والطوائف والمناطق، وتصادر الثروات الوطنية وتمارس وضع اليد على المشاعات، وتحتكر المنافع والوظائف والامتيازات والصفقات، وتعامل المواطنين بفوقية واستعلاء.
رغم الصورة المحزنة التي تحيط اليوم بذكرى ١٧ تشرين ومشهد عودة أركان المنظومة لتعويم أنفسهم والإمساك بالسلطة واستعمال أدواتها للتضييق على الحريات وكم الأفواه، بل واندفاعهم من دون رادع أو تأنيب ضمير لمعاقبة أولئك الذين تجرأوا يوماً على شتمهم في الشارع وإحراق صورهم وطردهم من المطاعم وأماكن الاحتفالات، رغم ما سبق ذكره ستبقى ١٧ تشرين شعلة مضيئة وتاريخاً مُلْهماً للأجيال القادمة.
قوى التغيير بأشد الحاجة لاستخلاص دروس وعبر المرحلة الماضية ولتصحيح المسار الذي سلكته مجموعات الثورة والقوى المنتسبة لـ ١٧ تشرين.
أول تلك الدروس هو ضرورة توحيد الجهود ورص الصفوف حول الأهداف الأساسية التي يمكن تحقيقها في الواقع اللبناني المعقد، وضرورة التخلي عن الطوباوية المبالغ بها وعن الشعارات القصووية التي تقسِّم وتشرذم، ورفض الدخول في صراعات ثانوية لا طائل منها.