مشروع ذاكرة بقلم روبن طالب
ناشط سياسي – حائز على درجة الدكتوراه في الكيمياء الطبية
و يا لها من لحظة… هي لحظة البجعة السوداء حيث أنها جمعت كل اللبنانيين وكسرت قواعد التاريخ.
١٧ تشرين ولو للحظة عرت جميع اللبنانيين من عباءتهم الحزبية والطائفية ليتوحد صوتهم. صوت انبثق من الوجع ووجهته واحدة، النظام بكامل مفهومه وكل من يمثله. هذه هي لحظة أمل وطني العزيز والتي ما أن لذع وهجها أعداء الوطن، فأطفأت نفسها بنفسها ليعود العديد من من لامستهم الحرية لأول مرة الى عبوديتهم المقنعة. وهنا أستذكر “هارييت تابمان” التي حررت ألف عبد وكانت لتحرر أخرين كثر ولو علموا أنهم كانوا عبيد.
فكيف لمن ذاق طعم الحرية ولو للحظة أن يخون خالقه ليعبد غيره! الجواب واحد : من أنهكه وقمعه مرارا وتكرارا مستعبده المقنع، فقد بصيرة عينيه فما قدر له أن تذوق عينيه نور الحرية لما لامستها. وهكذا انشقت أول كتيبة عن صفوفنا، نحن الأحرار. وهنا كانت لحظة ضياع الحلم حيث أن كل ما تلى كان من تداعيات هذا الانشقاق الذي أصدر فجوة في صفوفنا والتي استثمرتها المنظومة الى توثيق خلاياها السرطانية ومن بعدها تفشت كالوباء. وهنا أرى فسحة أمل لوطننا العزيز، حيث علينا أن نعمل بالدرجة الأولى على احتضان الفئة الأولى وهي الأكبر لضمان وحدة صفوفنا متكاملة حين تعود البجعة السوداء ( ولا محال الا وأن تعود هذه المرة بثوبها الأسود غير مقنعة بثوب أقرانها البيض ) حتى تؤسس اللحظة الى لحظات تؤرخ ولادة لبنان الجديد لأجيال وأجيال .
هنا تسقط الومضات الشاعرية وأغوص في تجربتي الخاصة بعيد عن ملحمات البطولة. في خلال ثلاث أيام من انطلاق الثورة، انشقت الصفوف وفقدت تراصفها غير أن السواد الأعظم ممن ارتقوا الى فئة المواطنين المؤمنين بنهائية لبنان، ثابروا مع العديد من الزملاء بداية على إبقاء شعلة الثورة متّئدة على الأرض من خلال التمركز في المناطق الاستراتيجية وقطع الطرقات.
ولما تعثرنا وسلبت أحلامنا، انتقلنا من العمل على الأرض و انضممنا الى بعض المجموعات التي كانت تعمل على توحيد الصفوف على الصعيد الوطني، ولكني وبسرعة أدركت أن العمل المركزي لن يجدي نفعا حيث أن صراعات المجموعات تحقنها الرهانات الشخصية والانا المتضخمة فأيقنت أننا نختلف لشدّة تشابهنا بالأهداف والرهانات. فكان ولا بد من تنظيم الاختلاف وحصره بالوسائل والتكتيكات لتحقيقها. البعض يبغى الاشتباكات العنيفة والآخر يسعى إلى التغيير من خلال العمل السياسي.
هذا بدوره كان العائق الرئيسي لإنتاج موقف سياسي موحد على الصعيد الوطني. هنا قررت مع بعض الأصدقاء أن ننتقل الى العمل اللامركزي حيث أنه ومن منظارنا أن ما فرقنا على صعيد الوطن من أسباب عقائدية، دينية، جغرافية، طبقية وغيرها لن يطفوا كعائق أمام بيئة شبه متجانسة وفي حيزّ جغرافي متجانس. فعدنا الى الكورة وتكثفت لقاءاتنا وتبلور العمل التنظيمي وفق فترة زمنية قصيرة من خلال مجتمع الكورة المستقل وهو حركة سياسية وتثقيفية.
ولما تكثفت لقاءاتنا نضجت ورقتنا السياسية وسرعان ما أصبحت أصداء عمل مجموعة الإعلام والاستقطاب التي توليت تنظيمها وإدارة محتواها وصياغة خطابها يتداول به بين الأصدقاء وفي المقاهي مما ساهم في زيادة عدد الأعضاء المؤمنين بالمجموعة. وتوزعت الأدوار حيث تفرعت عن المجموعة فرق عمل متخصصة من ضمنها فريق العلاقات الخارجية التي سعى إلى التشبيك مع مجموعات الدائرة الثالثة وأيضًا مع مجموعات أخرى في الكورة ورغم صغرها.
وبعد عدة لقاءات مع مجموعات الأقضية المجاورة، تم التوافق على ورقة سياسية واحدة أعلنا عنها في أول نقطة مفصلية للثورة في مرحلتها التنظيمية وكان ذلك في حفل إطلاق ائتلاف “شمالنا” الذي كسر حواجز جغرافية وهمية بين الكورة، البترون، بشري و زغرتا.
وكان لهذا الائتلاف أثر كبير على الصعيدين المحلي والوطني، فشكل حافزًا أمام مجموعات كثيرة أن إمكانية التلاقي ليست بالمستحيل. لعب الائتلاف دور الوسيط بين بعض المجموعات لتسهيل عملية التلاقي البناء بغية بناء موجة تغيرية موحدة على صعيد الوطن.
داخليًا، واجه الائتلاف مشاكل لما بدأت مجموعات أخرى تنشأ ضمن القضاء الواحد وكان له آلية لضم هذه المجموعات بغية الحفاظ على وجهة واحدة للثورة. في الكورة، نشأت مجموعة من أشخاص عددهم يحصى على يد واحدة ورغم ذلك تم التواصل معهم بهدف التشبيك البناء ولكن كانت لديهم طلبات تعجيزية كما وآلية عمل تتعارض مع روح الاتلاف.
سرعان ما تبين أن هذه المجموعة التي ادعت التغيير ليست إلا مجموعة أفراد حاولت فرض معايير نشأتها وايقاعها السياسي نائباً قديم جديد لطالما شبك مع منظومة الفساد وهو من قضاء مجاور، لضمان حليف له في الكورة ( وهنا أرى ضرورة لأنوه أن بعض أعضاء هذه المجموعة لم يكونوا على دراية بخلفيات هذه البادرة ). طبعًا لكل مجموعة الحق بالعمل السياسي ولكن المشكلة لم تكمن من رغبتنا باحتكار الثورة في الكورة وإنما عدم شفافيتهم بما يدعونه وعلى من يتكئون منذ البداية ( كانت بيد خفية ) التي تبلورت أولاً بطلبات ليست بالمنطقية ومن ثم تجاهل دعوتنا للقاء.
أما التحدي الأكبر لمجموعتنا في الكورة، وكما هي الحال في غالبية المجموعات على صعيد الوطن، تكمن في غياب آلية وضوابط انتساب للمجموعة مبنية على التوافق مع مبادئ المجموعة والإتلاف مرفقة بأدوات التدقيق لكل من أراد الانتساب.
فغياب هذه الالية سمح لمجموعات منظمة في الباطن ( وهي مجموعات فشلت سياسياً عبر مسارها السياسي الزمني في أكثر من موقع ) ولكن على صعيد فردي في الظاهر، أن تتواجد بشكل مكثف في مجموعتنا. هنا أتكلم عن مجموعات ملونة الهوية متقلبة الهوى بوصلتها الوحيدة التملّق للحياد على موقع، وأصبح لديها أعضاء في جميع الأقضية ومرشحين أقله في دائرتين. طبعًا آليتنا تسمح لأفراد كما للمجموعات أن تنتسب وفق لشروط أبرزها عدم أهلية من تبوّق أي منصب أو التحق بأي من مكونات المنظومة المتحكمة بتاريخ السياسة اللبنانية الحديث خلال السنوات الثلاثين الأخيرة.
و الأهم من ذلك، آليتنا تفرض العمل الشفاف وترفض العمل الغير معلن – على قاعدة “من تحت الطاولة” – من قبل مجموعات لم يتم قبول انتسابها جهارة. مع اقتراب ساعة الحسم تزايدت الصراعات الداخلية وتجلت بداية حرب باردة حيث انقسمت المجموعة بين مناصرين لنهج سياسي عصري بعيد عن الطائفية والزبانية مبني على مشاريع تقدمية، ومناصرين لنزعة غوغائية زرعت نفسها ركنا مخفيًا ولكن أساسي في الاتلاف. من ناحيتي، فإن قناعاتي التي أودت بي في هذا المشوار فرضت علي أن أكون من أركان المجموعة ذو النهج العصري والذي على مفهومه تأسست المجموعة.
نحو المستقبل وعبر من :
1. النيران الصديقة
لا شك وأن العديد من مجموعات التغيير واجهت مشاكل داخلية جراء وجود أفراد من خارج روحية ١٧ تشرين، وهنا أرى أن على كل مجموعات التغيير العمل على تطوير ألية الانضمام وفق معايير مدروسة ومتجانسة على صعيد الوطن لكي نضمن استبعاد الأفراد المدسوسين.
2. تدمير الهيكل والعودة الى نقطة البداية أم الكذب…