مشروع ذاكرة بقلم العميد المتقاعد جورج نادر
حراك العسكريين المتقاعدين
طُلب إلي، بعد مرور أربع سنوات، أن أكتب عن ١٧ تشرين.
ماذا عساي أكتب، أنا ذو الخلفية العسكرية، والذي نشأ في بيت جندي قاتل في المالكية العام ١٩٤٨، وربى أبناءه على الولاء المطلق للوطن ؟
تربيتُ في بيئة مختلطة، وفي منازل قريتي الترابية بمعظمها، تنشر على حبال الغسيل بزاة الجنود العائدين من الخدمة، وقد أثر في مشهد الجندي الآتي من خدمته منحنياً يقبل يد والديه. انضممت إلى صفوف الجيش إبان الحروب الأهلية والعبثية، تعرفت خلال خدمتي على كل المناطق اللبنانية وجغرافيتها وعاداتها، عانيت الظلم اللاحق بأبناء شعبي، شاهدت ممارسات الجيوش الغريبة، وعاينت همجية عدولا يعرف من الإنسانية إلا اسمها، قاتلت المنظمات والميليشيات والجيوش المحتلة التي عاثت في الوطن قتلًا وتهجيرًا ودماراً، وبعد ٣٥ سنة من الخدمة، تقاعدت بحكم القانون، إنما لم أتقاعد عن التعاطي في الشأن العام، حتى أتت لحظة ١٧ تشرين لتفجر الغضب الكائن في أعماقي منذ طفولتي وحتى اللحظة، فهي تشبهني في الفكر والممارسة، فانخرطت فيها حتى العظم ، ولا أزال أؤمن بأن الفكر والوعي شع في ١٧ تشرين، هو الوحيد، القادر على رسم الطريق لخلاص الوطن من كبوته، والنهوض به من الأزمات المدمرة التي أوصلته إليها منظومة كاملة متكاملة متكافلة متضامنة، وشبكة عنكبوتية مؤلفة من رؤساء ووزراء ونواب وموظفين وعسكريين وقضاة ومصرفيين وإعلاميين ورجال دين ومتعهدين وأحزاب مسلحة، تحمي بعضها البعض بالسلاح و”القانون” ولا ترى أمامها عدوا إلا ١٧ تشرين.
كنت قبلاً في الحراك العسكري الذي انطلق في بداية العام ٢٠١٧، لمواجهة سلسلة الرتب والرواتب التي أقرتها حكومة سعد الحريري في بداية عهد الرئيس عون، والتي أتت مجحفة بحق العسكريين في الخدمة والتقاعد، بينما كانت” كريمة” فضفاضة إلى حد الهدر والرشوة الانتخابية مع مختلف فئات القطاع العام.
في صيف ٢٠١٩، ورفضًا للانغلاق على الذات، و كوننا جزء من الشعب الذي يعاني الأمرين، قررنا الانفتاح على ما كان يسمى حينها بالمجتمع المدني وتبني قضاياه ومطالبه المحقة، وكلفنا، العميد سامي الرماح وأنا، التواصل مع المجموعات ، فاجتمعنا في 15 تشرين الأول 2019، في مطعم كيروز في جسر الباشا، مع بعض الوجوه المعروفة في الحراك، واتفقنا على إنشاء جبهة موحدة من حراك العسكريين ومختلف الروابط والمجموعات الناشطة، على أن تتوالى الاجتماعات لإنشاء جبهة عريضة في مواجهة السلطة. لكن ليل ١٧ – ١8 تشرين، كان مفاجئا من حيث التوقيت، إذ انفجر الغضب الشعبي العارم دفعة واحدة من ساحة العلم في صور، مرورًا بالنبطية والشويفات وساحتي رياض الصلح والشهداء، وصولًا إلى جل الديب والزوق وجبيل فساحة النور في طرابلس ثم إلى ساحة حلبا في عكار، دون أن ننسى البقاع : راشيا، زحلة، فقرى القضاء حتى بعلبك.
بالطبع ، كنا أول المنخرطين في صفوف تلك الانتفاضة، وتوالت الاجتماعات ليلاً نهارا مع مكوناتها حتى توصلنا في 22 تشرين إلى إنشاء ما ُسمي آنذاك بـ “هيئة تنسيق الثورة”، وألقي البيان الأول للهيئة عصر 23 تشرين في ساحة الشهداء، مباشرة على الهواء، وكانت تضم أكثر من 76 مجموعة من المجتمع المدني.
الثورة برأيي لم تكن أكثر من انتفاضة شعبية عارمة، لأن الثورة تقلب المقاييس وتُغير في بنية النظم السياسي، ولأن هذا الحراك الكبير لم يستطع لأسباب شتى، منها عضوية ومنها خارجية، قلب الطاولة على رؤوس المنظومة، فلا يجب تسميته بالثورة، لكن حناجر الصبايا والشباب في الساحات والشوارع لم تكن تهتف إلا بالثورة، فـ سُميت ثورة.
في البدايات كانت الأصوات المعترضة على وجود السلاح غير الشرعي خجولة، إذ أن أغلب المطالب كانت اجتماعية سياسية، لكن بعد حضور عناصر “حزب الله” بالقوة إلى ساحة الشهداء وإحضار شاشة عملاقة لنقل خطاب السيد حسن نصرالله، متهماً الثورة بالانتماء إلى السفارات مهدداً و “ناصحاً” الجماهير المحتشدة بأن الحكومة لن تسقط، وبأن هذه الموجة الشعبية لن تستطيع تحقيق أي من أهدافها، ” وروحو ع بيوتكن أفضل”.
عندها تعاظمت الصيحات المطالبة بنزع هيمنة السلاح على القرار السياسي، وكان التحول الكبير بعد قمع المتظاهرين في ساحة العلم في صور وفي النبطية، وعلى الهواء مباشرة أمام أعين قوى الأمن الداخلي في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وقد نقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية مباشرة ميليشيا “حزب الله” تضرب المدنيين العزل بالعصي وتخرب الخيم، ولم توفر النساء ولا عناصر قوى الأمن.
إذ ذاك وبعد افتضاح دور السلاح المسيطر بالقوة على مفاصل الدولة، تعالت الأصوات المطالبة بنزع السلاح، الذي أضحى الهدف الرئيسي للثورة، فكنا نرى رفاقنا الذين يقطنون في مناطق سيطرة حزب الله، يخبئون الأعلام اللبنانية “الممنوعة” في صناديق سياراتهم قبل العودة إلى منازلهم خوفاً من القمع والتعدي الذي وصل إلى حد الاغتيال السياسي.
١٧ تشرين نزعت القناع عن كل أطراف المنظومة الحاكمة، فأظهرت أدوارهم التدميرية وعرت حكام الفساد والمحاصصة المحميين من حزب مسلح، الشريك الأساسي وحامي المنظومة الفاسدة.
١٧ تشرين ليست ذكرى، إنها لحظة الوعي الشعبي النقي، الذي رفض الطائفية والمذهبية والمناطقية، إنها اللحظة التي توحد فيها الناس ضد أصنام الطائفية المتحجرة، لحظة الوعي السيادي بأن لا مكان على الأرض اللبنانية إلا لبندقية القوات المسلحة الشرعية.
فالدولة، في كل الأنظمة، تحتكر القوة والسلاح من خلال قواتها المسلحة، ويعود لها حصراً قرار الحرب والسلم عبر مؤسساتها الدستورية، إلا في لبنان حيث يسيطر حزب مسلح على قرار الدولة ويهيمن على كل مفاصلها، ويقرر منفرداَ، بحسب رغبة مرجعيته الإقليمية، الدخول في الحرب أو عدمه.
أتت الانتخابات النيابية في ربيع العام الماضي، وتشرذم “الثوار” على لوائح عدة في الدائرة الانتخابية الواحدة، أسموها لوائح التغيير، وبعضهم تحالف مع أحزاب السلطة، وبالرغم من عدم توحد اللوائح، فقد حصلوا على 13 نائب، ولو توحدت اللوائح لكانت النتيجة أكثر من 45 نائب، لكن أحزاب السلطة وأجهزتها سخرت كل طاقاتها لمنع توحيد اللوائح، بالإضافة إلى الأنانية الفردية التي تكمن في نفوس أكثرية المرشحين، والتي كان لها التأثير الفاعل في شرذمة الأصوات على لوائح عدة، وبالتالي ضمور التمثيل النيابي لتلك الانتفاضة العارمة، التي لولا توحدت، لغيرت وجه النظام، فمجموع 426 ألف صوت كانت كافية للحصول على 50 مقعد، بينما الأحزاب التي تمثلت بأكثر من ١٧ نائب، نالت 172 ألف صوت ( القوات اللبنانية ) و127 ألف صوت ( التيار الوطني الحر) على سبيل المثال لا الحصر.
١٧ تشرين، بالرغم من الشوائب التي حرفت مسارها، وبالرغم من الخروقات الكبيرة والتصدعات التي أحدثتها أحزاب السلطة وأجهزتها في بنيان الانتفاضة، وبالرغم من سقوط البعض في مستنقع المال والسلطة والترغيب والترهيب، فإنها لحظة التحول الاجتماعي الشعبي من عصر الإقطاع وتقاسم الحصص الطائفي، إلى زمن المواطنية الحقة والوعي السيادي الذي وحده يبني المؤسسات ويستعيد الدولة من خاطفيها.
١٧ تشرين هي فكر تقدمي، ونهج سياسي سليم، ووعي جماهيري ، وستبقى لحظة التحول العظيم في تاريخ الوطن…فهل يعي جمهور ١٧ تشرين، بأن وحدته كفيلة بتغيير وجه النظام ؟؟؟؟