بقلم محمد علي مقلد
لمنظّمة «حماس» الفضل في هذا الفيض من التضامن العالمي الذي أُغدق على القضية الفلسطينية على الصعيدين الشعبي والحكومي، لأنّ العملية البطولية نفضت الغبار عن قضية كادت أن تصبح طي النسيان. حصتها من هذا التضامن كادت أن تكون صفراً. فهل هذا من عدل التاريخ أم من ظلم الرأي العام؟
«حماس» ومؤيدوها يقرأون التاريخ بغير هذه العين. هم يرون في ما حصل هزيمة لجيش لم يهزم أمام الجيوش العربية مجتمعة. أذله أبطالها حين اجتاحوا غلافاً كرتونياً من بشر تجمعهم عنصرية دينية وأساطير ومصالح البلدان الاستعمارية.
عين «حماس» الجهادية «لم تعد ترى في الموت ثمناً ممكناً أو محتملاً، بل الوسيلة الحتمية للهدف المنشود، لا بل الهدف بذاته» بحسب تعبير سمير قصير في كتابه «شقاء العرب» (دار النهار)، أو بحسب طقوس التبريك التي يقيمها «حزب الله» للشهداء، أو بحسب تفسيرهم النصوص الإيمانية التي تحسب أنّ الجنة هي جزاء من يقتلون «في سبيل الله» لا من أجل الوطن، ولا يحسبون أمواتاً «بل أحياء عند ربهم يرزقون».
العين السياسية الحزبية لها رأي آخر. مقياس النصر والهزيمة عندها هو الإمساك بالسلطة. ما دامت سلطة الحزب وقيادته بخير فالنصر محتم. بهذا المقياس انتصر النظام السوري في حرب تشرين واحتفل ويحتفل غداة كل هزيمة، حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن القنيطرة والجولان وعن أكثر من نصف الشعب السوري بتشريده في أربع أصقاع الأرض. فهل هذا ما تريد أن تفعله «حماس» بالشعب الفلسطيني في غزة؟
طبعاً لا. هي لم تقصد ذلك، لكن ما يحصل يدمي القلوب. عشرات آلاف القتلى. هذا ليس رقماً. إنهم أحياء يرزقون على هذه الأرض لا في وعود السماء. هل إذا قتل طفل يكون موته في سبيل الله؟ لا وقت للعودة إلى السؤال الفلسفي عن مصير الإخوة الثلاثة. ولا يمكن أن نعزز انتصاراتنا بزيادة أعداد الشهداء. هذه كانت ثقافة الموت في مراحل التبشير الديني. أما حرية الشعوب، وحرية الاعتقاد، وحرية الالتزام الحزبي والتحرر من الاستعمار فمقاييسها مختلفة.
لكل حرب نهاية. حرب داحس والغبراء، حرب السبع سنوات، حرب الثلاثين سنة والحربان العالميتان كلها انتهت، وحين تنتهي يصبح إحصاء الخسائر فيها من التاريخ. الرابح الوحيد هو الممسك بالسلطة. هو الذي يشرف على دفن الموتى ويحصي الغلال ويوزع الأرباح على القادة الأحياء. فماذا عن حرب غزة؟ من هي الجهة التي ستترجم انتصار القضية، ومن هي السلطات التي ستتولى إدارة الهزائم، هزيمة نتنياهو والسلطة الفلسطينية و»حماس» معاً؟
أخطأت «حماس» في اختيار اللحظة. توهمت دعماً سيأتيها بغير حساب، من رام الله وعمان وبيروت وطهران ومن كل العواصم وأن نهاية إسرائيل اقتربت ونهايات «جاهلية القرن العشرين» وعصور الكفر والزندقة والكوارث الإنسانية، فأصابها الخذلان. أخطأت لأنها لم تميز بين الحلم والوهم، بين الممكن والمتخيل. أخطأت لأنها انطلقت من مغامرة العقل الأصولي، وكل أصولية تعصب وتطرف.
السلطة الإسرائيلية انحدرت إلى مزيد من التطرف وقادت حملة إرهابية على التسويات، حتى على حل الدولتين. هي لا تحسن القراءة إلا في كتب العنصرية وفي الوصايا التلمودية. السلطة الفلسطينية جسدت التطرف بالمقلوب، أي الانكفاء حتى التخلي، حتى إطفاء جذوة القضية.
من الظلم ألا يخرج تنظيم «حماس» من هذه المعركة بنصر مؤكد. لكن سعيه إلى النصر يتنافى مع بحثه عن السلطة. هو يستحق النصر إن ارتضى أن يتخلى عن السلطة وأن يكون استشهادي الثورة وكاميكاز القضية؟