بقلم عقل العويط
قال لي السيّد cooper، أمس، ونحن نتمشّى في نسائم الخريف : لم يعد مقبولًا أنْ يُستخدَم جنس الكلاب للدلالة على حقارة الجنس البشريّ. كلّما خان أحدُهم أحدًا، أو نكث، أو انتهز، أو سرق، أو ظلم، أو ارتكب مجزرةً، وكلّما أصدرت بلادٌ “حرّة” موقفًا مخزيًا حيال ما يجري في فلسطين، في لبنان، أو في سواهما، هبّ بعضكم لينعت هؤلاء بأنّهم كلاب، تعبيرًا عن الاحتقار. قلْ لي، أيّها التابع: أيّ تناقضٍ يقع فيه هذا الإنسان؛ من جهة يصف الكلب بأنّه مخلص، وفيّ، نبيل، حنون، رؤوف، وإلى آخره. من جهةٍ ثانية يستخدم مصطلح الكلبيّة ليصف بها انتهازيّة الكائن البشريّ، ودناءته، وتملّقه، ونذالته، وصغره، وحقارته، وخيانته، ويباس الرأفة في قلبه، وعدم أمانته، وإلى آخره.
أردف السيّد كوبر طارحًا عليَّ هذا السؤال الجسيم: أنا كلب، ولستُ إنسانًا. لكنْ، أنتَ الإنسان، كيف تتحمّل كونكَ “إنسانًا” عندما يمعن صنفكَ البشريّ في حفلة الإبادة والاحتلال والعنف والتوحّش والدم والقهر والجشع والظلم والقتل والسرقة والنهب والاستبداد والانبطاح والزحفطة والوطاوة؟ّ!
ثمّ، لا أدري كيف صار كوبر شاهدًا أدبيًّا، فانبرى يحذّرني وينبّهني على مستوى الكتابة: إذا كنتَ تريد أنْ تظلّ أمينًا لحبركَ، وشخصيّتكَ الأدبيّة، فابقَ، كما وكمَن أنتَ. إيّاكَ، ثمّ إيّاك، أنْ “تدجّج” لغتكَ وأدبكَ بالادّعاء، بالتصنّع الثقافيّ، بالانتفاخ، بالحسد، بالإحالة على هذا الفيلسوف، على ذاك الشاعر، وعلى ذلك الروائيّ. خصوصًا المرجعيّات منهم، والحائزين الشهرات الوسيعة، وإنْ كلّفكَ هذا الخيار أنْ تبقى في الظلّ، فلا تحظى كتاباتكَ بالترجمة مثلًا، أو بالجوائز، أو… بالمردود المادّيّ. أنا، شخصيًّا – قال لي السيّد كوبر – أتابع ما يجري في الكواليس والأروقة، وأدرى منكَ كيف تُقطَف غالبيّة الترجمات والجوائز والأموال، هنا وفي الغرب: صفقات وتملّقات وكومبينات. وهلمّ.
في المساء، عندما جلسنا، كوبر وأنا، أمام “نتفليكس”، بعدما أخَذَنا مشوارُ الدغشة إلى مكانٍ قصيٍّ في نواحي العقل وجهات الروح، سألني: كيف يُعقل أنْ يكون العالم شاهدًا ساكتًا على الجريمة الفجعانة في فلسطين، بل متواطئًا فيها، كأنّه نسي كيف تُربّي الإباداتُ الإباداتِ المضادّة؟
ثمّ حاججني بالبرهان المقارن، مؤكّدًا أنّ الحيوانات التي توصَف بأنّها متوحشّة، يستحيل أنْ ترتكب مثل هذه الجرائم، إلّا دفاعًا عن نفس، أو درءًا لخطر، أو رفعًا لجوع. فمتى أمِنتْ، واطمأنّتْ، وشبعتْ، امتنعت – بطبعها – عن الهجوم والافتراس والالتهام، وانحازت إلى السلام والعيش الرخيّ. أمّا الإنسان فلا يشبع. وإذا شبع فهو يريد مراكمة الأرباح والأطماع التي لا تنتهي عند حدّ. أرأيتَ، يا صديقي، كيف أنّ الحيوان المتوحّش أفضل من الإنسان المتمدّن، الأليف، المتعلّم، الراقي، العاقل، والمؤنسن؟!
ختم مداخلته يائسًا من الانسان، لكنْ من دون تعميم: قلْ لزملائك البشر إنّ غرائزهم مطلقة الشرور، ولانهائيّة، وهي الحاكمة بأمرها، لا الأنسنة، ولا العقل. زملاؤكَ البشر (غالبيّتهم القصوى) هم، في هذا المعنى، هم وحدهم وحوش هذا العالم ومجرموه.
ليسألني (متماكرًا) وهو يتثاءب ناعسًا: قلْ لي، عن جدّ، ألا تفضّل أنْ تكون كلبًا؟!
تبادلتُ والسيّد كوبر النظرات السَّكوتة. هو اكتفى بهذا القدْر، ليغمض عينيه، قابلًا برضا، لكنْ أيضًا على مضضٍ روحيّ، بهذه القسمة المجحفة وغير العادلة في معايير التعامل والتصنيف.
تحرجني وتزعجني وتقضّني “قيم” السيّد كوبر. لماذا؟ لأنّه “يعرف” الكنه، والجوهر. أي الحقّ والحقيقة. “معرفته” و”عرفانه” يجعلان الكائن (البشريّ!) مهزومًا على المستوى الأخلاقيّ والفلسفيّ بالضربة القاضية. علمًا أنّ كوبر حيوان. وأنّه “كلب”!
الإنسان، العاقل، العارف، المدرك، الذكيّ، المكتشف، المخترع، الحديث المعاصر، المستقبليّ، وما بعد المستقبليّ، وما بعد بعد المستقبليّ، والقويّ، والقادر، واللّامحتَمل بطشُه، والفائز المنتصر، ما دام “يعرف”، فلماذا لا يعرف أنّ الكلب يعرف. وأنّ هذا الكلب يفضحه. يحتقره. وينظر إليه بازدراء. بل “يتعالى” عليه بـ”الأنسنة” التي يفترض أنْ تكون خصوصيّة الإنسان المتمايزة، لا خصوصيّة الحيوان؟!
الإنسان العنصريّ، الفوقيّ، المتسلّق، الزحفطونيّ، الألعبان، الشرّير، الحقير، المحتقِر، الجشِع، الطمّاع، السارق، القاتل، الدنيء، المدمِّر، الماحق، المثير الضغائن والأحقاد، المُشعِل الفتن والحروب، المؤجِّج الأمراض والمجاعات، الوالغ في دفن الطبيعة، الممعن في تسميم البيئة، الفاقد “الأنسنة”، هل يجوز أنْ نهين الكلبَ، فنصف هذا الإنسان الفاقد “الأنسنة” بأنّه “كلب”؟ّ
حاشا. يا لحماقة هذا الشرط البشريّ !
على هامش الحوارات اليوميّة التي يجريها السيّد كوبر معي، أنا التابع، لطالما أعرَبَ هو لي أنّ لشدّ ما آلمه أخيرًا على المستوى اللبنانيّ، الإيغال في “الحَيْوَنة” و”الكلبنة”، متوقّفًا عند سرقة أموال الناس واغتيال مستقبل أولادهم، وتجويعهم، والتفريغ المتوحّش للمؤسّسات الدستوريّة من كينونتها (رئاسة الجمهوريّة، قيادة الجيش، رئاسة الأركان، حاكميّة المصرف المركزيّ، إدارة الأمن العام…)، واضعًا علامةَ استفهام كبرى حول الغايات الخبيثة التي قد تكون تشتهي ما لا يجوز أنْ يُشتهى، وطنيًّا، في هذا الصدد، ويتعلّق بمحق لبنان، وتخريب كينونته، وإلغاء وجوده، وتبديد مصيره، والقبض عليه، وإعدامه.
لفتني كوبر، بإلحاحٍ جارح، إلى أنّ ممارسات الطبقة السياسيّة، ولا سيّما أحزابها والقوى والزعماء، وأشباه الزعماء، والأذيال، الجباههم مُمَرْحَضة ممرَّغة معفَّرة، العيونهم فارغة، القلوبهم مظلمة، العقولهم جهنّميّة شيطانيّة جحيميّة، والنفوسهم ممروضة واطئة حشراتيّة مفقِّسة كالبقّ، ينبغي لنا، نحن فصائل “الكلاب” النبيلة ذات الكرامات والمعايير والشهامات والقيم والكِبَر، أنْ نفلت عليهم فننهشهم، على جوع، فلا يبقى منهم مرئيًّا ومسموعًا، سوى “عوائهم” الذي يجب أنْ لا ترأف به أرضٌ، ولا سماء.
تنبّه السيّد كوبر إلى أننا في تشرين الثاني، غداة الاستقلال، وعلى سيرة هذا الاستقلال، قرّب وجهه من وجهي وهمس في قلبي شامتًا: قال عيد استقلال!
ليسألني على سبيل السخرية: هل صحيح أنّ أحدهم سُمِع يهدّد بما معناه “التمديد لقائد الجيش لن يكون إلّا على جثتي”!
ثمّ غمز من قناة مَن يقحم لبنان في المقتلة الفلسطينيّة، “عارفًا” أنّه يورّط هذا اللبنان البالغ الهشاشة، عن سابق تصوّرٍ وتصميم، في حبائل الجهنّم الصهيونيّة العالميّة التي تضمّ من الأوباش مَن نعرف ومَن لا نعرف. منذرًا بسوء المصير ومستخدمًا عبارة: خلص. كفى!
بدل أنْ أخاطب ضميري معترفًا للسيّد cooper بعدم قدرتي على التحمّل، ها أنا أخاطب ضميره، متوسّلًا إليه أنْ يكفّ عن تعذيبي بضميره.
أقصى أمنياتي، الآن، أنْ أكونَ هذا الكلب، كي، قليلًا، أستطيع أنْ أنسى، فقط قليلًا، و… أنام. والسلام.