بفلم مصطفى أمين
عايدة الجوهري أستاذة جامعية وكاتبة وباحثة يسارية، حاصلة على دكتوراه في اللغة الفرنسية وآدابها. تقدّم مشروعًا ذا رؤية ورسالة وأهداف معينة. وأهم إنتاجاتها المعرفية: “رمزية الحجاب مفاهيم ودلالات” (مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، “نوال السعداوي وعايدة الجوهري في حوارٍ حول الذكورة والأنوثة والدين والإبداع” (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013)، “القاضي والنقاب” (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013)، “اليسار: الماهية والدور” (دار الفارابي، 2016)، “دروس شهرزاد” (مركز دراسات الوحدة العربية، 2020). ونلاحظ أنّها موضوعات متنوّعة لها صلات بشكل أو بآخر بتخصّصها الجامعي، والخيط الذي يجمع كلّ إنتاجاتها تلك هو المنطق الإنساني الساعي إلى الحرية والمساواة والعدالة والحق.
تناولت الجوهري مفهوم “المواطنة والدولة وفق اليساري الجديد” وتقدّم للقارئ شرحًا تاريخيًا عن تطور فكرة المواطنة وعوامل تبلورها ومجالات تحققها، ثم تُسقط أيديولوجية اليسار التقليدية والجديدة عليها، وبعبارة دقيقة تجعل مصطلح المواطنة حداثيًا في متناول الدولة. ولعلّ الأزمة التي تعيشها معظم المجتمعات، وخصوصًا العربية منها، مع غياب قيمة الانتماء للوطن، تستدعي البحث عن رؤية عادلة غير مُستهلَكة، إذ ساد ترادف خاطئ بين الشيوعية السوفياتية ونقيضتها الرأسمالية المتوحّشة بكلّ ما يحملانه من صور استبداد وقمع، مع مفهوم اليسار الذي من المفترض أنّه فضاء أوسع وأكثر قدرة على استيعاب تلك التناقضات والجذور المواطنية وأكثر تحررًا من حدود أيديولوجيا الدولة، وفق معادلة البحث عن العدالة الحداثوية الكونية.
كلّما جرت محاورة الكاتبة والباحثة حول أيّ موضوع، تتعزّز قناعتها بأنّ تعريف المفاهيم وضبط معانيها ودلالاتها من أولويات المعرفة، وأنّ إعادة التعريف هو الشرط الأولي لأيّ بناء نظري متماسك، وبالتالي تفتح لها إعادة التعريف أبوابًا جديدة ومتنوعة للتحليل والنقاش، وهذا ما تمثّل في هذا الحوار معها:
أنتِ منشغلة حاليًا بالإشكاليات التي تطرحها مسألة المواطنة والانتماء إلى الوطن، فما الذي يجمع بين الإشكاليات التي عالجتِها في مؤلفاتك السابقة وبين إشكاليات المواطنة والانتماء إلى الوطن ؟
تنتمي هذه الإشكاليات إلى حقول فكرية ونقدية مختلفة، ولكنّها ليست متناقضة، أو متباعدة، جوهريًا، وتتقاطع وتتشابك من حيث الهواجس، ومن حيث منظومة المفاهيم الموظّفة في التحليل، ومن حيث الأهداف الأخيرة.
يقع على عاتق المثقف، توظيف معارفه ومهاراته، في سبيل ما يجب أن يكون، لا من أجل ما هو كائن وعفا عليه الزمن.
وأنا أجد صلة وثيقة مباشرة بين محتويات كتابي “اليسار: الماهية والدور”، والإشكاليات التي يطرحها مفهوم المواطنة ومقولاته، فهي إشكاليات متعالقة، لأنّ اليساري يهدف، في العمق، إلى تطوير واقع الإنسان، لأنّه يعترف به كفاعلية حرة، وككائن مستقل الإرادة، ومسؤول، وصانع لتاريخه، وذي كرامة غير قابلة للانتهاك، وبما أنّه كذلك، هو “كائن حقوقي”، يفترض أن تتمركز التنظيمات السياسية والاجتماعية حول هذه المسلّمة. وهذه المسلّمة لم تنشأ بغتةً، وخلسةً عن التاريخ، بل جاءت كحصيلة للأفكار التنويرية والإنسانوية، والتجارب السياسية والاجتماعية العالمية. وتبلورت هذه المسلّمة في مفهوم “المواطنة”، ومقولاته ومرتباته.
ما هي تفاصيل الصلة الوثيقة، كما تصفينها، التي تجدينها بين مفهومك الذاتي للرؤية اليسارية النموذجية، ومفهوم المواطنة ومتتبعاته، والتي جعلتك تقترحين أن يكون مبدأ “المواطنة” هدفًا رئيسًا لليساريين العرب ؟
بدايةً أنا سأستعمل مصطلح “اليساري الجديد” للدلالة على اليساري الذي يُحسن تشخيص مشاكل مجتمعه ومعضلاته، والذي لم يهجر قيمه وأخلاقياته، ومفاهيمه الأساسية، ولم يتنكر لها لأنّها لصيقة بوجدانه وحسه السليم، ولم يلتحق بعناوين العصر النيوليبرالية، التي آلت إلى ما آلت إليه، ويحاول بكل ما أوتي من وسائل، عصرنة رؤيته التغييرية، واستدخال مفردات ومفاهيم جديدة، تقرّبه من أهدافه.
ولم تعد بالتالي مفردة “مواطنة” بعيدة عن مفرداته السياسية، وخطابه التغييري، خلافًا للثقافة السياسية السائدة والتي تعمل السلطات الحاكمة على بثها وترسيخها.
لم يعد اليساري الجديد يحلم بمجتمع خالٍ من الطبقات والملكيات الخاصة، وبالمساواة المطلقة بين الناس، بين الكسول والخانع، والجاد، المنتج والمبدع، ولا بدكتاتورية عمالية، وهو لم يعد يرضى بإلغاء شخصية الإنسان المتفردة، والمستقلة، والمبدعة، في سبيل عدالة مزعومة.
ولم يعد الإنسان وسيلته لاختبار صحة التنبؤات النظرية، فاليساري هو بالتعريف نقدي، موضوعي، جدلي، لا يأخذ بالأفكار الاتباعية، أو ما يسمى “ثوابت” و”مسلّمات”، إلا تلك التي يرتضيها حسّه السليم ووجدانه، فهو يأبى التصرف ضد إرادة البشر الحرة، مؤمنًا بمركزية الإنسان، وقدراته الإبداعية، أمينًا بذا لأفكاره ومنطلقاته التنويرية، وهو بات يأخذ بالحسبان، المعطيات والمحددات الموضوعية، والتجارب الخاصة بالمجتمعات التي ينشط فيها، فلا يُسقط عليها النظريات التجريدية والطوباوية.
وما يرنو إليه هذا اليساري، لم يعد منفصلًا عن التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي اختبرتها المجتمعات على مستوى العالم، والتي كانت ثمرة الأفكار التنويرية ونظريات العقد الاجتماعي، وحقوق الفرد الطبيعية، وأسهمت طروحات الثورة الفرنسية، والأفكار الاشتراكية التي انبثقت عنها، ابتداءً من بالوف Baleuf، وشارك فورييه، وسان – سيمون وتلامذته، وأفكار كانط Kant، وغيرهم، وصولًا إلى ماركس ومن تلاه، في بلورتها، وتعميقها.
ما زال مفهوم “المواطنة”، الذي يحوّل الإنسان، إلى كائن حقوقي قانوني، بعيدًا عن ثقافتنا السياسية، ولم تتمثله، حتى أنّ مفهومَي “الحق” و”القانون”، مفهومان غريبان إلى حدّ كبير عن اللغة الإعلامية، ومحصور استعمالهما بالنخب التغييرية الواقعية.
تعريفًا، “المواطنة” هي مجموعة الحقوق المكرسة التي يكتسبها الفرد من خلال عضويته في مجتمع معين، فهي ليست مجرد جنسية تجيز لحاملها، الإقامة والتجول، والعمل، إذا استطاع لذلك سبيلًا، والاستفادة من الخدمات العامة الشحيحة، إذا أتيحت، دون أي حقوق دستورية، شاملة مكرسة، وواضحة، معمول بها، وقابلة للتطوير.
يتأسس مفهوم “المواطنة”، على مفاهيم المساواة أمام القوانين والفرص الحياتية، وعلى مفاهيم الحرية، والحق، والعدالة والديمقراطية، وهذه ليست شعارات طنانة، بل تختبرها المجتمعات الديمقراطية، وتُطورها وتُعدّلها باستمرار، وإن حاولت الحكومات الانتقاص من الحقوق، تنهض الشعوب ضدها، لأنّها باتت جزءًا من ثقافتها.
إنّ الالتزام السياسي بمبدأ “المواطنة” في بلد ما، يتمثل في التوافق على عقد اجتماعي جديد، يؤكد على أنّ المواطنة وحدها هي مصدر الحقوق والواجبات، وبالتساوي بين جميع المواطنين دون تمييز ديني أو عشائري، أو عرقي، أو جندري، أو طبقي، بحيث يستأثر الأغنياء والأقوياء والأوليجارشيين بكل الحقوق والفرص دون غيرهم.
ولكنّ نبرة الطروحات اليسارية تبدو أعلى من هذه الطروحات.
نعم يقتنع “اليساري الجديد” بأنّ العدالة لا تستقيم بدون تصحيح عواقب التفاوت الاجتماعي، القائم على القوة، والمصادفة، وتاريخ من استغلال النفوذ، ومراكمة فوائض القيمة، كي يتمكن مَن لهم المواهب والقدرات نفسها، من استغلال إمكانياتهم وطاقاتهم، في أن يكون لهم فرص النجاح نفسها، بصرف النظر عن مكانتهم الاعتباطية في المجتمع، أي أن يكون ثمة حد من التساوي في الفرص بغية إعادة ترتيب المجتمع على أساس الكفاءات الفردية العصامية، لا المزايا الوراثية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي لا فضل للفرد فيها.
يفضي الأخذ بمبدأ تكافؤ الفرص كشرط أساسي لتصحيح عواقب التفاوتات الاعتباطية، بشكل جوهري، إلى توفير فرص تعليم وتأهيل متساوية، لكل أفراد المجتمع، فلا يتم توزيع المعارف والخبرات البشرية المتراكمة، طبقًا لأصول الفرد الاجتماعية، فيذهب أولاد الأثرياء والموسرين إلى مدارس نموذجية، تتيح لهم كل أسباب التفتح والانطلاق، وأولاد الفقراء إلى مدارس متهالكة بائسة تُنتج بائسين ليس إلا، وينطبق الأمر ذاته على الطبابة والغذاء، والسكن، واللباس، والتنقل، والعمل، والثقافة، وغيرها من جوانب العيش، ولو تأملنا ما يجري حولنا، لوجدنا العالم ينقسم على ذاته مرات عديدة في الدقيقة الواحدة، فيولّد الفقر فقرًا وعلى كل المستويات، والثراء ثراءً وعلى كل المستويات.
إنّ الغاية النبيلة من تصحيح عواقب التفاوت الاجتماعي المتراكم، بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، تنسجم مع مطلب المواطنة.
فالمجتمع الأمثل هو الذي يسمح بتجاوز أشكال التمييز الاجتماعي، وإذا انتفى التمييز الاجتماعي الأصلي، فحينئذٍ يكون التفاوت في الحصص الموزعة، على أساس الاعتراف بالفضل الحقيقي لا الوراثي.
إنّها حق كل فرد في مجتمع ما في التمتع بالحصول على الفرص المتاحة للفئات المميزة.
أما فرص العمل، فهي تكاد أن تتوزع بدورها طبقيًا، فيفوز المحظوظون بالمناصب والمواقع الوازنة، وفي لبنان على سبيل المثال تتفاقم الأمور ويضاف إلى العامل الطبقي، عامل الولاء السياسي، حيث يتم توزيع فرص العمل في مؤسسات الدولة على أنصار القوى السياسية وجلاوزتها، وحتى الخدمات الاجتماعية التي تتيحها الدولة، تعيد هذه القوى توزيع بعضها على المحسوبين، من مثل خدمات الطبابة، وعطاءات وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الأشغال. وإذا استرسلنا سنجد المزيد من الأدلة على توزيع الفرص على أساس طبقي اجتماعي سياسي، وأعتقد أنّ لكل بلد عربي خصائصه في توزيع الفرص، وإعادة إنتاج التفاوتات والمتمايزات.
وهنا أستطرد لأقول إنّ معركة العدالة في لبنان هي معركة سياسية بنيوية، وتخاض على أكثر من مستوى وصعيد، بالنضال من أجل تغيير النظام في اتجاه مدني علماني مساواتي، ومن أجل كبح جماح الرأسماليين على أنواعهم، والذين يستغلون مقولة أنّ الاقتصاد اللبناني حر، ولا يجوز وضع ضوابط له، فيسترسلون في قهر العمال، وسرقة أموال الناس، إن بفرض أجور منخفضة على العمال وبعدم توفير شروط عمل لائقة لهؤلاء، أو باحتكار السلع وبيعها بأسعار مرتفعة، أما عن أحابيل أصحاب المصارف بالتعامل مع ودائع الناس، فهي غنية عن الوصف، ولاستغلال الرأسماليين والملاّك للناس أشكال، وأفانين، لا مجال لسردها الآن وهنا.
وسأثير موضوعًا إضافيًا ينسجم مع مزاج اليساري الجديد والقديم، وهو موضوع إعادة توزيع الثروة الذي يبرز كحق عام في الخيرات التي يجمعها أحدهم، على حساب عموم الناس.
فعلى الدولة التي تأخذ حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والبيئية على محمل الجد، وتَعدّها من أولوياتها، وضع استراتيجيات لإعادة توزيع الثروة على حساب المحظوظين الذين ابتسمت لهم المصادفة، أو القوة، أو القوانين المجحفة، أو راودتهم عن نفسهم شهوة الربح والاستغلال، فعلى هؤلاء المستفيدين من الثروة العامة، تقع ضريبة الفروقات الاجتماعية الاعتباطية، وعليهم التنازل الإجباري عن امتيازاتهم، التاريخية المتوارثة، باسم “الحق العام” وحق كل فرد في الثروة العامة، كي توظّف مشاركاتهم، لصالح الطبقات المستفيدة من دينامية مراكمة الثروات، وهذه المشاركات ليست سوى الضرائب التصاعدية، التي تعتمدها معظم الدول الديمقراطية والتي تصل أحيانًا إلى 70% من معدل أرباح الرأسماليين.
ولا تستقيم هذه المسؤوليات والالتزامات الكبرى في دولة تشهر الحياد التام تجاه حراك اقتصادها الوطني، فعلى عاتق هذه الدولة تقع مسؤولية رفع مستوى معيشة مواطنيها وزيادة الدخل القومي، وخلق فرص عمل، ما يوجب تدخلها في القطاعات الإنتاجية دعمًا وترشيدًا وتصويبًا، ولدينا عدة أمثلة على تدخل الدولة الإيجابي والمجدي في الاقتصاد، منها تجربة كوريا الجنوبية، الناهضة اقتصاديًا والتي يطلق عليها اسم “النمر الآسيوي”، فهذه الدولة أحسنت حماية قطاعاتها الإنتاجية وتوجيهها، وتوصلت إلى الانتقال بالبلاد من اقتصاد زراعي متخلف إلى اقتصاد صناعي متقدم.
وبأية حال تقع على اليساريين مسؤولية تجذير مفهوم “المواطنة” وموجباته، فاحترام حقوق المواطن الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتنموية لا يتحقق في ظل اقتصاد متفلت من كل قيد، فعلى اليساريين فرض وضع الاقتصاد في خدمة المجتمع، وهنا يكمن مغزى مفهوم الاشتراكية.
نحن نعاني من احتقار الحكومات العربية لشعوبها، فهي لا تنظر إلى مواطنيها “الافتراضيين” ككائنات حقوقية، يُفترض أن تدور حول حقوقها السياسية والمدنية، والاقتصادية والاجتماعية كل الاستراتيجيات والسياسات، والقرارات، بل هي تنظر إليها ككائنات فائضة عن الحاجة، ينبغي لجمها وضبطها، وفي أحسن الأحوال إبقاؤها على قيد الحياة، كي تكون موضوعًا للسلطة، والتسلط والتحكم، وموضوعًا لخدمة ذوي السلطان والثروة.
كما أنّنا نعاني من نظرة هؤلاء الأفراد إلى أنفسهم، نظرة جزئية مبتورة، فهم أعضاء في عشيرة، أو طائفة، أو دين، قبل أن يكونوا أعضاءً في دولة، فالانتماء إلى الوطن، كان دائمًا وما يزال، “علامة زائدة على النسب”، كما يقول ابن خلدون.
إنّنا مدعوون كيساريين إلى العمل والنضال من أجل تطبيق الإعلانات والاتفاقيات العالمية بندًا بندًا، إلى تحويلها إلى برنامج نضالي، وإلى جعلها مادةً للتثقيف السياسي العمومي، فمن العوائق الأساسية أمام تطوّر مجتمعاتنا نحو الديمقراطية، بكل مرتباتها، غياب الثقافة الشعبية الحقوقية المدنية، فنحن مطالبون بالترويج لمفاهيم الحق، والقانون، والعدالة، سواء بسواء، وجعلها إنجيلًا جديدًا.
إنّ الطروحات اليسارية الرائجة عالية النبرة، ويتضمن بعضها مشاريع تغييرية جذرية، نكاد نقول انقلابية، تتخطى موضوعة “المواطنة”.
وإذا نشدنا كيساريين التغيير السلمي الديمقراطي لبلوغ أهدافنا، ولا مناص من أن ننشده، فكيف نستطيع القفز فوق مكانة الفرد في الدولة وعلاقته بها، وإغفال حقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، والثقافية، التي تكرست عالميًا وباتت في قلب سياسات الدول الديمقراطية، وإن تفاوتت الإنجازات بين دولة وأخرى؟
أنت تثيرين في كتاباتك مشكلة عدم الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، في الوقت الذي يجري فيه التداول بمصطلح “المواطن الكوني”. فهل من صلة بين طروحاتك حول ترسيخ فكرة “المواطنة” وتحويلها إلى هدف رئيسي، وفكرة الانتماء إلى الوطن ؟
أنا أعتقد أنّ عدم الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، وأشدّد على كلمة عميق، هو أحد الأسباب الكامنة وراء عدم الشعور بالمسؤولية العامة، والحرص العام، وعدم الفاعلية، وعدم النزاهة، واللامبالاة والإحباط، على مستوى الحكام والمحكومين، سواء بسواء، مع التشديد على أنّ انعدام الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، لدى الحكام أشد تأثيرًا على الأحداث، من تأثير المحكومين، وهذا بديهي لأنّهم في موقع القرار، والتشريع والتنفيذ، والحل والربط.
يحضرني هنا ما يقوله مونتسكيو في “روح القوانين” شارحًا مسببات الفساد، فهو يفترض أنّ الفساد يتأسس على غياب ما يسميه “حب الوطن”، وما نسميه نحن “الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن”.
ونحن عندما نتحدث عن “الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن”، إنّما نعني الشعور بالانتماء الآيل إلى الشعور بالمسؤولية، والالتزام، أو الواجب، وإلى خلق ضوابط ذاتية، تتخطى بأشواط الارتباط العاطفي الرومانسي بالأوطان. ربما نحتاج إلى إعادة تعريف مفهوم الانتماء.
تعريفًا، الانتماء هو الارتباط الوجداني والفكري، والواقعي، بمجموعة اجتماعية، وبمجموعة أفكار ومعتقدات، أو بأفكار فلسفية، أو بمكان، أو شيء… إلخ.
إنّ درجات الانتماء في نفسية الفرد وشخصيته وكيفية تراتبها ونوعية تأثيرها في سلوكه، قضية معقدة في ذاتها، إلا أنّها تزداد تعقيدًا بتفكك المجتمع، وعدم وجود انتماء واحد يشمل أفراده جميعهم، ويعلو على الانتماءات الأخرى التي تجاذبهم.
لعل الفارق الاجتماعي الأهم بين المجتمعات النامية أو المتعثرة، يكمن في مستوى تطور ظاهرة الانتماء، فالمجتمعات المتقدمة في معظمها، قطعت مراحل عدة من مراحل الوجود الوطني القومي، وجعلت الانتماء القومي الأولوية والصدارة، ومثل ذلك لم يحصل في مجتمعاتنا، حيث الانتماء الوطني ما زال يتصارع مع الانتماء العشائري، والقبلي، أو الديني، والطائفي، الذي يكاد يكون بيولوجيًا.
أما الارتباط بالوطن، فيجري التعبير عنه بنمطين من الشعور: الأول، وهو الشعور بالانتماء الفطري، إلى مساحة جغرافية سياسية وتاريخية، محددة، بحدود فاصلة عن غيرها من المساحات، هو الانتماء إلى مكان الولادة، والطفولة، والقرابة، والإقامة، والدراسة، والعمل، والأصدقاء، وسائر وجوه الحياة اليومية، والثاني هو الانتماء العميق إلى الوطن، وأشدد على كلمة عميق، والذي يستلزم ارتباطًا عقليًا وبراغماتيًا وعمليًا بالوطن، لا روحيًا فحسب، والشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، يولّد شعورًا بالرضى والاستقرار والإشباع.
يحول الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، العضوية في حياة الجماعة، إلى تفاعل حيوي، إيجابي، وبنّاء، يؤثر في نفسية الفرد تأثيرًا جذريًا، يجعل المواطن يغلّب انتماءه الوطني العام، على انتمائه العشائري والطائفي والديني، ويجعل الحاكم يغلّب المصالح العامة على مصلحته الذاتية، السياسية، والسلطوية، والمالية.
إنّ شعور الأفراد بالانتماء العميق إلى الوطن، الذي لا يتكوّن إلا بإشباع حاجات الفرد المادية، الاقتصادية، والاجتماعية، التنموية، وحاجاته السياسية والمدنية، إلى ما هنالك من حقوق، هو ركيزة الشعور بـ “الهوية الوطنية”، فالهوية الوطنية ليست مجرد علامة على تموضع الأفراد في التاريخ والجغرافيا، أو مجرد جنسية للتعريف بالذات، أمام الشعوب الأخرى، أو مجرد إذن بالإقامة، والتجول، في بلد معين، والاستفادة من الخدمات الشحيحة التي يوفرها هذا البلد، كما أسلفنا.
إنّها علاقة جدلية مثلثة الأبعاد، إنّ الهوية الوطنية إنّما تنبني على الشعور بالانتماء العميق لا السطحي إلى الوطن، والشعور بالانتماء العميق إلى الوطن لا يتم إلا بإشباع حاجات الفرد المادية والمعنوية الرمزية، وإشباع هذه الحاجات لا يتم إلا بالتأسيس لدولة المواطنة واعتبار المواطن كائنًا حقوقيًا وسيدًا لا عبدًا منصاعًا.
أمّا مفهوم “المواطنة الكونية”، فهو مصطلح يطلق على الإنسان الذي يستطيع التفاعل مع أي شخص آخر مهما اختلفت ثقافته وموطنه، وهو شعور الشخص بالانتماء إلى مجتمع يتخطى الحدود الجغرافية والوطنية، إلى شعور يُظهر القاسم المشترك بين البشر، مبني على التعاطف الثقافي واحترام الاختلاف والتنوع.
هو مفهوم نبيل وإنساني ومثالي، ولكنّ الإنسان الكوني يقتضي وجوده شروطًا واقعية، تؤهله للانفتاح على الآخرين أيًا كانت انتماءاتهم، ولكنّنا لا نستطيع توقع هذا الانفتاح من إنسان محروم، ومن التعليم، والعمل، والغذاء، والسكن، وكل أشكال الحياة، وهو فوق ذلك يعاني أزمة هوية وطنية وانتماء، ومواطنة.
وكيف تعرّفين الهوية الوطنية من هذا المنظور ؟
هي الهوية الجماعية العليا التي يدرك الفرد ذاته فيها، وفي تفاعله معها، والهوية الوطنية هي التي تجمع المقيمين في بلد واحد، في منطقة جغرافية وسياسية واحدة، والذين يتفاعلون، بطريقة أو بأخرى، على مدار الساعة، ويتلقون الأحداث ذاتها، ويجمعهم مصير واحد، وتحكمهم سلطة واحدة، وقوانين واحدة، وأهداف سياسية عليا واحدة. وهذه الهوية الجماعية لا يكتمل عقدها، ما لم تتجذر في مبدأ المواطنة والمساواة، فإذا طبقنا هذه المعايير على الهويات العربية، نجدها مشروخة، فإذا توفرت بعض العناصر غابت أخرى، وعلى رأسها الشعور بالمساواة أمام القوانين والحقوق والفرص.
وأختم لأقول، لا وطن حقيقيًا بدون هوية وطنية مكينة، ولا هوية وطنية مكينة بدون الشعور بالانتماء العميق إلى الوطن، الذي لا يستقيم ولا ينهض بدون الاعتراف بالمواطن وحقوقه.